للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الثالث: أنه فرَّق بين التقليد والاتباع (١). فجعل من عرف دليل من أخذه عنه متبعا لا مقلدا.

قال الشوكاني: (وإن استروح المقلد إلى الاستدلال بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ … لَا تَعْلَمُونَ (٧)} [الأنبياء: ٧]. فهو يقتصر على سؤال أهل العلم عن الحكم الثابت في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى يبينون له كما أخذ الله عليهم من بيان أحكامه لعباده، فإن معنى هذا السؤال الذي شرع الله هو السؤال عن الحجة الشرعية، وطلبها من العالم؛ فيكون راويا وهذا السائل مسترويا، والمقلد يقر على نفسه بأنه يقبل قول العالم، ولا يطالبه بالحجة. فالآية هي دليل الاتباع لا دليل التقليد) (٢).

ولأن الآية هي دليل الاتباع لا دليل التقليد؛ رد استنباط من استنبط جواز التقليد من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ … لَا تَعْلَمُونَ (٧)} فقال: (وقد اُستدل بالآية على أن التقليد جائز وهو خطأ، ولو سلم؛ لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنة لا عن الرأي البحت، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته) (٣).

الرابع: ليس في منعه من التقليد تكليف للأمة بما لا يطيقون، إنما مراده أن يبذل كل أحد وسعه في معرفة الحق. وعلى الجاهل الذي لا يفهم ألفاظ الكتاب والسنة أن يسأل من يفطن ذلك، وحينها يكون السائل عاملا بالكتاب والسنة بواسطة المسؤول، ويرتفع عنه وصف التقليد المذموم.

قال الشوكاني: (على أني أقول بعد هذا (٤) إن من كان عاطلا عن العلوم الواجب عليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه عن نصوص الكتاب والسنة في الأمور التي يجب عليه من عبادة أو معاملة، وسائر ما يحدث له؛ فيقول لمن يسأله: علمني أصح ما ثبت في ذلك من الأدلة حتى أعمل به، وليس هذا من التقليد في شيء؛ لأنه لم يسأل عن رأيه بل عن روايته، ولكنه لما كان لجهله لا يفطن ألفاظ الكتاب والسنة وجب عليه أن يسأل من يفطن ذلك، فهو عامل بالكتاب والسنة بواسطة المسؤول) (٥).


(١) الاتباع: هو الأخذ بقول الغير بعد معرفة دليله. انظر: القول المفيد ص ٣٧، و ٦٠، والوجيز في أصول الفقه الإسلامي ص ٣٥٦.
(٢) القول المفيد ص ٨٨.
(٣) فتح القدير ج ٣/ ص ٣٩٩.
(٤) أي قوله: (والذي أدين الله به أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف، وشطر من مهمات كليات أصول الفقه في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز، ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاع على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون، وعمل بها المتقدمون والمتأخرون، كالصحيحين وما يلتحق بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة، أو جمعوا فيه بين الصحيح وغيره، مع البيان لما هو صحيح، ولما هو حسن، ولما هو ضعيف، وجب العمل بما كان كذلك من السنة، ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأي، سواء كان قائله واحدا أو جماعة أو الجمهور، فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب أو السنة … ). البدر الطالع ٦٤٠ وما بعدها.
(٥) البدر الطالع ص ٦٤٣. عند ترجمة محمد بن إبراهيم بن علي المرتضى.

<<  <   >  >>