للقرآن، وذلك فوق شرفه الذاتي بما اشتمل عليه من أسباب الإعجاز، وما اشتمل عليه من علوم، ولأنه سجل النبيين ومعجزاتهم، وقوله تعالى:(تَنزِيلًا) مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره، ونزل تنزيلا، ويلا حظ هنا أمران بيانيان:
أولهما: أنه ذكر " تنزيل " وفعله " نزَّل "، وهو التنزيل المقرر مجيء القرآن منجما آية بعد آية، أو سورة بعد سورة، حتى يمكن حفظه مرتلا محفوظا في الصدور، فلا يُحرَّف ولا يُنسى على مدى الأجيال، بينما قال سبحانه وتعالى:(مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لتَشْقَى) فذكر بفعل الإنزال لَا التنزيل؛ لأنه كانت العبرة في أنه أنزله كله لينذرَ به ويبشر، لَا ليشقى، فكان التعبير بالإنزال في موضعه من النزول في جملته لَا في تفضيله، أما هنا فإنه يحكي الواقع، وهو التنزيل شيئا فشيئا.
الأمر الثاني: أن في الكلام التفاتا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، وذلك لتصريف القول؛ ولأنه من قبيل الرفق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي يكون منه التكليف، فكأنه سبحانه يقول، ولكلامه المثل الأعلى، ما أنزلت القرآن وكلفتك ما فيه لتشقى، فهوِّن عليك، ولا تأس على القوم الكافرين، وأما في هذه الآية فهو يبين صفاته سبحانه وأفعاله، فيناسبها حديث الغائب.
وإن الله سبحانه بين علم ميزة القرآن وقدرته، وأنه جاء مناسبا لمن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فمهما تكن لهم من قوة فالله غالب عليهم، وهو القاهر فِوق عباده، وقد ابتدأ سبحانه بالأرض فقال عز من قائل:(. . . مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْض. . .) لأنه سبحانه في أكثر آي القرآن يقدم في الخلق السماوات على الأرض؛ لأنها أعظم خلقا، ولكن هنا قدم الأرض لأنها التي يدَّعي المشركون وغيرهم من الطغاة السلطان فيها، فبين الله تعالى أنه خالقها فهو لها أَملك، وسلطانه عليها، ثم ذكر سبحانه السماوات بصورة عالية في الفخامة، وهو سبحانه خالقها، وليس لهم أي مكان للسلطان فيها.