للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

شرح حديث: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن شعبة قال: حدثني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)].

أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعاً: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) وهذا يدل على فضل نشر العلم؛ لأن هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لمن يقوم بذلك حيث قال: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً حتى يبلغه) يعني: أنه يحفظه ويبلغه، فتتصل السلسلة ويتوارث الناس الحق والهدى ويأخذ جيل عن جيل، وأول جيل أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم هم أصحابه الكرام لقوله: (سمع منا حديثاً) وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين سمعوا منه مثل الحديث الذي قبله (تسمعون ويسمع منكم).

فهذا الحديث فيه فضل تحمل السنة وتلقيها ونشرها، وفيه بيان أن من فائدة النشر وإبلاغ السنن أنه قد يأتي من يشتغل في الاستنباط، وقد يكون الذي تحمل ليس متمكناً من الاستنباط مثلما يتمكن من يبلغ إياه، فيكون الخير في حفظ هذا الذي حفظ السنة وأتقنها وبلغها لمن بعده، فإن هذا الذي يبلغ قد يستخرج منها ما لم يستخرجه غيره، ولهذا قال: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فيكون حفظ السنة وأتقنها وحافظ عليها وأداها إلى غيره، وقد يكون ذلك الغير أشد تمكناً في الاستنباط والفقه والفهم، فيستنبط منه أحكام وفوائد.

وقوله: (رب حامل فقه ليس بفقيه) يعني: أن الإنسان قد يحفظ الشيء ولكنه ليس عنده ما يكون عند غيره من الناس من جهة قوة الفهم وقوة الاستنباط أو الحرص على الاستنباط والقصد إلى الاستنباط، ومن المعلوم أن العلم النافع هو الذي جمع فيه بين الرواية والدراية، وجمع فيه بين الفقه والحديث، فالحديث هو الأساس الذي يبنى عليه الفقه، والفقه إذا لم يكن مستنداً إلى حديث فإنه قد يكون مبنياً على رأي مجرد، وقد يكون الذي يشتغل بالفقه ولا يشتغل بالحديث يحتج بحديث ضعيف أو حديث موضوع إذا وجده مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يفعل ذلك لأنه لا يعرف ما يثبت وما لا يثبت، ولهذا تكلم الإمام الخطابي في أول كتابه معالم السنن بكلام جميل في مدح العناية بالحديث والفقه، وأن من يقتصر على الحديث يكون عنده نقص في جانب الفقه، ومن يقتصر على الفقه دون الحديث يكون عنده نقص في جانب الحديث، ولكنه إذا اعتنى بهذا وبهذا فقد جمع بين الحسنيين، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: إن الذي يشتغل بالحديث ولا يشتغل بالفقه والاستنباط مثل الذي يبني له بنياناً فيتقن أساسه ويحكم أساسه ولكنه يقف عند حد الأساس، فلا يستفيد منه الفائدة المرجوة أو الفائدة الكاملة؛ لأن البنيان أحكم أساسه ولكن ما وضع فوقه حجراً وغرفاً وأشياء مما يستفيد الناس منها، وهذا مثل الذي يشتغل بالحديث ولا يشتغل بالاستنباط، فمهمته القراءة دون الفهم ودون معرفة ما يؤخذ من الحديث أو التأمل في الحديث، فهو مثل الذي يبني بنياناً على غير أساس، فالبنيان موجود والغرف موجودة ولكن الأساس غير موجود فيمكن أن ينهار، ولكنه إذا جمع بين إحكام الأساس ووجود الفروع التي بنيت على الأساس، صار هذا هو الإحسان، وهكذا الجمع بين الحديث والفقه يكون فيه تقوية الأساس ووجود البنيان على الأساس.

فهذا يدلنا على أهمية الاستنباط وأهمية الفهم، واستخراج الكنوز من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضاً إشارة إلى المحافظة على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن حفظ حديث الرسول على ما هو عليه دون أن يختصر ودون أن يروى بالمعنى لا شك أن هذا هو الذي ينبغي أن يكون؛ لأن هذا فيه تمكين المتفقه من الاستنباط من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم والعناية بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث يستنبط منه ويستخرج منه ما اشتمل عليه من كنوز.

ومن المعلوم أن الإنسان إذا نظر في شروح الحديث يرى كثيراً من الفوائد التي تستنبط من الحديث وأن في الحديث كذا وفي الحديث كذا، ويجد نفائس وأشياء دقيقة، لكن ما كل إنسان يستطيع أن يستخرجها، وقد يتعجب إذا رأى مثلها مستنبطة من الحديث، يعني: من ناحية دقة الفهم وجودة الاستنباط من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن المعلوم أن ثمرة الحديث هو الفقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) والفقه في الدين إنما يكون بالتأمل في نصوص الكتاب والسنة ومعرفة ما اشتملت عليه من كنوز وما اشتملت عليه من أحكام ومن حكم.

وقوله: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً حتى يبلغه إلى من هو أفقه منه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بالنضرة لحامل الحديث، وأولى الناس وأحق الناس بهذه الدعوة الكريمة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن قوله: (سمع منا حديثاً) إنما يراد به أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ورد الحديث بصيغ أخرى تشمل الصحابة وغير الصحابة بلفظ: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها) لأن كلمة: (سمع مقالتي) يمكن أن تكون من النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيره، وأما قوله هنا: (سمع منا حديثاً) فلا يكون إلا للصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

وقوله: (ورب حامل فقه ليس بفقيه) لأنه عند قوة الحفظ ولكن ما عنده الدقة في الاستنباط واستخراج الكنوز التي في الحديث، فقد يبلغ الحافظ للحديث المتقن له لغيره ممن يكون أشد تمكناً منه في الاستنباط، فيكون هذا الذي حفظ هو الذي مكن غيره من معرفة أحكام الشريعة المستنبطة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاشتغال بالنصوص ممن وصلت إليه ممن تحملها لا شك أن الفضل في ذلك بعد توفيق الله عز وجل إنما هو للرسول صلى الله عليه وسلم الذي دل الناس على الحق والهدى من بعده، وهكذا الذين تلقوه منه وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>