وسلفُ الأمةِ وأئمَّتُها يُنكِرونَ هذه الإطلاقاتِ كلَّها؛ لاشتمالِ كلِّ واحدٍ من طرَفَيِ النَّفْيِ والإثباتِ على باطلٍ، وإن كان فيه حقٌّ؛ بل الواجبُ إطلاقُ العباراتِ الحسنةِ، وهي المأثورة التي جاءتْ بها النصوصُ، والتفصيلُ في العباراتِ المجمَلةِ المشتبه.
وكذلك الواجبُ نظير ذلك في سائرِ أبوابِ أصولِ الدينِ أن يجعلَ نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ هي الأصلَ المُعتمَدَ الذي يجبُ اتباعُه، ويسوغُ إطلاقُه، ويجعل الألفاظ التي تنازَعَ فيها الناسُ نفيًا وإثباتًا موقوفةً على الاستفسارِ والتفصيلِ، ويَمنَعُ من إطلاقِ نفيِ ما أثبته اللهُ ورسولُه، أو إطلاقِ إثباتِ ما نفى اللهُ ورسولُه.
وفي المسألةِ قولٌ ثالثٌ: أنه يجوز تكليف كل ما يمكن، وإن كان ممتنعًا لذاتِه كالجمعِ بينَ النقيضينِ (١).
وفصلُ الخطابِ أن النِّزاعَ في أصلينِ:
أحدُهما: أن التكليفَ الواقعَ الذي اتَّفقَ المسلمونَ على وقوعِه في الشريعةِ؛ وهو أمرُ العبادِ كلِّهم بما أمَرَهم اللهُ به ورسولُه؛ من الإيمانِ به وتقواه، هل يُسمَّى هذا أو شيءٌ منه تكليفَ ما لا يُطاقُ؟ فالقائل:(إن القدرةَ لا تكونُ إلا معَ الفعلِ)؛ يقولُ:(إن المعاصيَ تكليفٌ بما لا يُطاقُ)، ويقولُ:(إنَّ كلَّ أحدٍ كُلِّف حينَ كان غيرَ مُطيق).
(١) هذه العبارة مذكورة في الهامش في غير هذا المكان، وفي مجموع الفتاوى هي قبل قوله: (وفصل الخطاب … ).