علاقتى بصديقي يحيى حقي -رحمه الله- بدأت مع بدايات الحرب العالمية الثانية. أو بالتحديد في أواخر عام ١٩٣٩ لتمتد حتى يوم زيارته وهو على فراش الموت في غرفة الإنعاش .. قبل رحيله ببضعة أيام، لتستمر هذه العلاقة أكثر من ثلاثة وخمسين عامًا استمرار حياتنا، فلا يقطعها إلا سفر له أو لي .. وقد بدأت هذه العلاقة بداية غير مألوفة بالنسبة لي على الأقل. إذ زارنى السفير عثمان عسل، ودارت بيننا أحاديث أحسست خلالها بأن هناك ما يريد أن يقوله، وإذ هو بقائله. وخلاصته أن هناك صديقًا عزيزًا لديه ود التعرف بى. وهو على استعداد لزيارتى. هذا الصديق هو يحيى حقى. وينبهنى عثمان عسل بأمر ربما فزعت له في حينه، وهو أن لا أشتد في المناقشة أو أغلظ في القول معه قائلًا:
"إن يحيى حقى إنسان عذْب الحديث رقيق الحاشية دمث الخُلُق .. فنان إلى أبعد الحدود فلا تشتدّ عليه".
وقد عجبت لهذا التقييم غير المتوقع .. فلا أنا مُغلظ في القول لأحد يزورنى، وليس ما أسمعه عن يحيى حقى ليستحق شدة الجدل أو المناقشة.
وجاء الاثنان يحيى حقى وعثمان عسل. وتحدثنا ساعات طوالًا وتفرّع بيننا الحديث إلى أكثر من اتجاه. حتى حان موعد انصرافهما. وخلال عبارات التوديع التقليدية. نظر إليّ يحيى هذه النظرة الوَدود الحانية وقال برقة بالغة:"أتسمح لي أن أزورك مرة ثانية؟ ".
وعلى قدر ما راعتنى منه هذه المودة وذلك اللطف، بقدر ما كانت دهشتى وعجبى لهذا الطلب الذي لم أتعوّده. فوجدت نفسي أقول له مندفعًا:"يا أخي البيت بيتك وأنا أخوك. وزيارتك لي حق لك ودَيْن عليّ. ثم إن أبغض الأشياء إلى النفس أن توضع الحدود والقيود بين البشر".