النابض الذي يتلقف مادة أفكاره من الحياة لا يستطيع أن يشعر أحيانًا، ولا يشعر أحيانًا، كما قال بعضهم، ولا يستطيع أن يتقيد بزمان ومكان يستوحي منهما الشعر ثم لا يكون هو يستوحي من غيرهما، كما ذهب بعض أصحاب الكلام الى القول حين ظهر "ليالي الملاح التائه" في شعر الطبيعة المصرية، وشعر الطبيعة الأوربية وما إلى ذلك من فضول الحديث.
إنّ هذه الحاسَّة العاقلة المفكرة النابضة في الشاعر تأخذ مادتها من مَساقط الوحْي في كل أرضٍ وتحت كل سماءٍ؛ وربَّ خمول أو فَترة تأخذُ هذه الحاسة في موطنها ومنشئها ومدْرجها ثم تكونُ البلادُ البعيدة في مطارح الغُرْبة هي التي تنفُض عنها غبارها وتمسحه حتى تجلوها جلاء المرآة، إعدادًا لها لتتلقى صُورها التي تجري في مائها إلى دم الشاعر ثم إليها مرة أخرى، ولا تزال كذلك بين الأخذ والإعطاء حتى ينبثق ماء الينبوع من صخرة الحياة الشاعرة.
فلا يخدعنَّك ما يقول فلانٌ وفلانٌ، فإنْ هم إلا أسماء قد ركبتْ على ألقابها تركيبًا مَزجيًّا على خطأ وفساد، كما ركِّبتْ حضرمَوت وبعلَبك تركيبًا مزجيًّا على صحة وصواب.
[ليالي الملاح التائه]
كل هذا الديوان شعرٌ من شعر "على طه" بعد رحلتيه من مصر إلى أوربا في خلال هذه السنوات التي انقضت بعد نشره الجزء الأول من ديوانه وهو "الملاح التائه". وقد كانت هاتان الرحلتان وحيًا جديدًا في نفس الشاعر وأعصابه وأحلامه، وكانتا تغييرًا في حياته عامة وفي أفكاره خاصة، ولم يكن بد إذن أن يجدَ قارئ هذا الديوان فرقًا بيِّنًا بين شعر "الملاح التائه" و"ليالي الملاح التائه". وليس هذا الاختلاف بشيء ألبتَّة، فإن شاعريَّته لم تزل هي ما هي في كليهما على نمط لن يختلف، ولكنه نزع في هذا الطَّوْر الجديد إلى السهولة والرِّقة ومعابثِة المعاني والألفاظ بغزل رقيق من عواطفه. وعلةُ ذلك فيما نرى أنه انطلق من قيود مصر في أول رحلته وخرج شاردًا يستجلى روائع الحياة الأوربية الزاخرة ببدائع