وفي اليوم التالى فوجئت بمكالمة من وزارة الخارجية ليكون المتحدث هو يحيى حقى حيث كان يعمل بها لتنتهي بطلب الزيارة. وفي هذه اللحظة أيقنت أن يحيى هو صديق الحياة الذي لا يمكن الإبتعاد عنه إلا بالموت و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}.
واستمرت هذه العلاقة كما قلتُ ثلاثة وخمسين عامًا. وازدادت قوة مع الأيام إلى درجة أنه ترك بيت العائلة وأقام معى في بيتى عشر سنوات لا نفترق فيها قط، ولم يقطعه إلا زواجه الأول من والدة كريمته "نهي" ليعود إلينا بعد وفاتها مواصلًا هذه العلاقة مع إخوة كرام في مقدمتهم فتحي رضوان، وعلى محمود طه ومحمود حسن إسماعيل، ومحمد لطفي جمعه وإبراهيم صبرى ابن شيخ الإسلام مصطفى صبرى المنفي في تركيا وعثمان عسل.
كانت علاقتى بيحيى حقى مزيجًا من صلات العمل العلمي والأدبى، وخلافات في الرأي ووجهات النظر، مع تباين واضح في الأمزجة والطباع وتبادل لمحات الفكر، وجوانب المعرفة. والحق أنها كانت صُحبة عظيمة خيل إليّ بعدها أننى كنت أعرف يحيى حقى منذ عشرات السنين وذلك لدماثته وأدبه وصفاء نفسه.
كنا ننفق وقتًا طيبًا في قراءة الأدب العربي القديم شعره ونقده ونثره وتاريخه. وكان يحيى أكثر الموجودين التقاطًا للتعبيرات والألفاظ وأسرعهم حفظًا للشعر. كنا نلحظ ذلك إلى درجة أننا فسرناه أنه يريد أن يُحَصِّل في ساعات وأيام ما لم يُحصِّله في شهور وسنين. وكنت والرفاق نعجب لذلك. ويزداد عجبنا حيث نلحظ تنبهه إلى جمال العبارة العربية، واكتشافه المبكر لأسرار بلاغة العرب، وقدرته الفائقة على اختزان كل ما يعرف وتمثله فيما يكتب بأسلوبه وعباراته بغير محاكاة أو تقليد. وإنما باقتدار وفن. براعة جعلته لا يقع فيما يقع فيه غيره من النقاد والأدباء. وهو ما أكسبه شخصية متميزة ومستقلة قائمة بذاتها كامنة في نفسه لا تظهر إلا عند الكتابة أو الاحتكاك بالآخرين. وعلى امتياز يحيى حقى وتفوقه في المجالات التي اختارها لنفسه. كنت ألمح فيه شفافية من الصعب أن