بشيء، ذكره الناس أو نسوه، وقنع بطلاب العلم وأهله الذين كانوا يترددون عليه للنهل من علمه، وضنَّ على جيله وما تلاه من أجيال بعلمه القديم أن يبعثه من رفاته التي قبروها بتجاهلهم وجحودهم. ولم يغب عنه أن هذه العزلة قد فعلت أفعالها بالأجيال التي تعاقبت فحالت بينهم وبينه، يقول "وضعت اسمي في صندوق مغلق، لا يعرف ما فيه إلا عدد من قدماء القراء. أما الأجيال الحديثة فهي تمرُّ عليه بلا مبالاة، ثم لا تجد ما يحفزها على الكشف عما يحتويه الصندوق المغلق، والكاتب إذا وضع قلمه صدئ، وإذا حجب اسمه عن القراء، نُسِى اسمه، وانطمس رسمه، ودخل في حيز الموتى، وإن كان يعد في الأحياء" ص ١٠٧١.
وإذا كانت هذه العزلة قد حجبته عن جيلنا والجيل الَّذي سبقنا، فما بال الأجيال الَّذي تلتنا؟ ألم تكن مقالاته في الرد على لويس كفيلة بنزع الغشاوة عن العيون فتبصر هذا المجاهد السياسي الَّذي شرع قلمه رمحًا حديد السنان مدافعًا عن أمته وعروبته وإسلامه غير عابئ بما يصيبه، ولا يبالي أن يعود من رحى هذه الحروب سالمًا أو مُكَلَّمًا مثخنًا بالجراح، أو مكبلًا بالقيود في غياهب السجون؟ ألم تكن مقالاته "نَمَطٌ صعب ونمط مخيف" زعيمة أن تجعل النقاد ودارسي الأدب يقتفون خطاه في تحليل القصائد العربية القديمة؟
وأين كانت مجامع اللغة العربية منذ تأسست حتَّى انتخابه عضوًا مراسلًا بمجمع اللغة العربية بدمشق ١٩٨٠، وعضوًا عاملًا بمجمع اللغة العربية بمصر سنة ١٩٨٢؟ فهذي أربعون سنة أو تزيد أغفلته المجامع كأنه غير جدير بعضويتها، وقل مثل ذلك في كل مؤسسات مصر الثقافية والتعليمية التي كانت ستفيد من خبرته لو أفسحت له مكانا حين كانت تعج بأشباه المثقفين وأدعياء العِلْم.
وأين كانت الهيئات التي تمنح الجوائز للعلماء والأدباء ورجال الفكر كِفاءَ ما أسهموا به في تقدم أمتهم والتمكين لبقاء حضارتها؟ هل ضُرِب بينها وبين عطائه الَّذي لم ينقطع أربعين حولًا كَرِيتًا بالأَسداد حتَّى عام ١٩٨١؟