وضِرامها قد رضوا أن يستمتعوا بالحكم ويصيروا وزراء في شعب مستعبد تدوسه أقدام الغاصبين، وهو لا يزال يسمع منهم أن الهند جزء لا يتجزأ من هذه الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أملاكها -فأي هزل أسخف وأبعد في الغفلة والسذاجة وسوء تقدير من هذا الحكم؟ وفيمَ يدلس هؤلاء على إخوانهم الذين يعرفون كما يعرفون من خبايا النيات البريطانية التي تدس لهم السمَّ في الدَّسم؟ أو لم تكفهم العِبْرة التي لا تزال أختهم مصر ترفل في أغلالها منذ سنة ١٩٢٤ إلى يوم الناس هذا، حين قَبِل رجال الثورة أن يكونوا للناس حُكامًا تحت ظلال الغَصْب والاحتلال؟
وأي هزل أشد على النفس الشاعرة مرارة وغضاضة من رجال قاموا من غفلتهم ومنامهم يسمعون الشعب كله ينادى الجلاء ووحدة وادي النيل، أي ينادى بالحق الطبيعى الذي لا يحتاج إلى تفسير ولا بيان ولا شروط، والذي ظلت مصر صابرة تهمس به أحيانًا وتصرخ به أحيانًا أخرى منذ سنة ١٨٨٢، وإذ هم يطالبون بالذي يطالب به الشعب، ولكنهم لا يلبثون قليلا حتى يرضوا لأنفسهم أن يدخلوا من باب المفاوضة مع البريطانيين، فلما دخلو داروا فيها كما تدور بهم، وهم كانوا أولى الناس بأن يعرفوا بعد طول التجربة ما عرفه الشاب مصطفى كامل إذ قال لهم:"لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، لأنه أدرك المفاوضة معناها أن ينزل الضعيف عن أكثر حقه للقوي الطائش الباغي؛ فما ظنك به وهو ليس بقوي طائش باغ وحسب، بل أيضًا منصور مظفر قد خرج من الحرب وهو يظن أن الدنيا له وأنه وإن كان ضعيفًا بين الأقوياء، إلا أنه هو الجبار العظيم [بين](١) الضعفاء؟ وأنه سوف ينال من الأقوياء والضعفاء بحيلته وسياسته ما لا ينال بالعنف، فلذلك آثر طريق المفاوضة، واتخذ أعوانه لينيموا الشعب إليها حتى يهدأ ويسكن ويظن أنه بالغ ما يريد؛ لأن الدنيا تغيرت، ولأن العالم في حاجة إلى نظام جديد ليس بينه وبين القديم شبه. وظلت المفاوضات أشهرًا وهي تسير فينا على
(١) زدت هذه الكلمة ليستقيم السياق، فمكانها مطموس في الأصول.