كنتُ أردتُ أن أكتب شيئًا عن المتنبي وعن حكمته وبصره بالحياة وبالناس وبما يعتلج في القلوب على اختلافها، وذلك لحديث جرى بيني وبين أحد ضيوف مصر من أهل العراق. وأردت أن أقارن بين ما يسمونه شعر الحكمة، وبين حكمة المتنبي في شعره، وأين وقع منه سائر الشعراء؛ فما كدت أبدأ حتى عرضت لي أبيات المتنبي التي يقول فيها:
من أطاق التماس شيءٍ غِلابًا ... واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا
كل غادٍ لحاجةٍ يتمنى ... أن يكون الغَضَنْفَرَ الرئبالا
وذكرت عندئذ ذلك البيت الذي أحيتْه أم كلثوم حين غنت في شعر شوقي:
وما نَيل المطالب بالتمني ... ولكن تُؤخذ الدنيا غِلايا
وما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم رِكابا
وأردت أن أعرض للفرق بين القولين، وبين العبارتين، وبين القوتين، وبين البيانين. فأي دقة وأي هداية كانت لهذا الرجل الفذ الذي لو احتلت على بعض ألفاظه أن تجد لها بديلا في كلامه لأفسدت معنى البيت وقوته وعبارته وبيانه! فخذ مثلا لفظ "الأنيس"، وتخير ما شئت من حروف اللغة وضعه حيث وضع المتنبي لفظه، واقرأ وانظر وتدبر، هل يليق أو يسوغ أو يلين أو يستقر في مكانه من البيت؟ ضع مكانه "الإنس" أو "البشر" أو "الناس" أو "الأنام" أو ما شئت، سواء استقام الوزن أو لم يستقم، تجد الفرق بين الاختيارين عظيما واسعًا. فهو قد اختار اللفظ والبناء الذي يدل دلالة على المؤانسة والرقة والتلطف وإظهار المودة والظرف وحلاوة الشمائل ولين الطباع، ليظهر لك أنها تخفي تحت هذا كله طباعًا وحشية ضارية مترفقة حينًا وباغية أحيانًا، فمهد للصورة التي أرادها باللفظ الذي لا يستغنى عنه في دقة الصورة وحسن بيانها. فأين هذا من ضعف شوقي الذي لم يزد على أن جمع كلمات رُصّ بعضها إلى بعض لا حاصل لها ولا خير فيها. وما قيمة ذكر الركاب، مع الإقدام والاستعصاء والمنال؟ وأما