واعلم مشكورًا أن المقام في هذا كله مقام ابتداء لا مقام ختام مسبوق بسلام منكر غير معرف.
وأما نص ابن قتيبة فهو كلام بين لا غموض فيه، فالرجل يقول لك:"تكتب في صدر الكتاب: سلام عليك، وفي آخره السلام عليك"، ولم يقل لك إنه "ينبغي"، ولا أن القاعدة "أن تكتب في صدر الكتاب كذا. . . ."، وهو إنما ذكر هذا في كتابه في (باب الهجاء) لا في باب أدب الكتابة كما ترى، ولم يأمر الرجل ولم ينه، ولم يقل لك إن من قال في أول كتابه "السلام عليك" معرفًا فقد أخطأ، كما شئت أنت تقوَّله. وأما ما ذكره من أمر التعريف، فإنه أراد أن يعلمك لِمَ عُرّف ثانيا وقد جاء منكرًا وهو أول، وكان حقه أن يأتي في الآخر منكرًا مرفوعًا كما جاء في الأول فقال لك:"لأن الشيء إذا بدئ بذكره كان نكرة، فإذا أعدته صار معرفة، وكذا كل شيء. تقول: مر بنا رجل، ثم تقول: رأيت الرجل قد رجع، فكذلك لما صرت إلى آخر الكتاب، وقد جرى في أوله ذكر السلام عرفته أنه ذلك السلام المتقدم"، ويريد أن يقول إن التعريف هنا "للعهد لا للجنس". هذا كل ما في كلام الرجل لم يوجب شيئًا ولم يمنع شيئا.
وأما الآية التي في سورة مريم من قول عيسى -عليه السلام- {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ. . .}، وما جاء من قول الزمخشري فيها: "قيل أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله يعني في قول الله تعالى ليحيى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ. . .} فذلك تفسير من الزمخشري لمعنى (ال) في قول من قال إن التعريف هنا للعهد. وأبى الزمخشري أن يكون كذلك، لأن العهد ههنا باطل عنده، فالسلام المذكور في قصة يحيى كان من قول الله سبحانه قبل مولد عيسى، وهو آت في أول السورة في الآية (١٥)، ثم مضى بعدها [واذكر في الكتاب مريم] وذكر الله سبحانه قصتها، حتى أفضت إلى كلام عيسى وهو في المهد إذ قال:{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ. . .} في الآية (٣٣) فبينَ السلام الأول والثاني (١) انقطاع في المدة (٢) وانقطاع في السَّرْد (٣) واختلاف في مُبتَدِئ السلام ومُلْقِيه، فالأول من الله والثاني من عيسى. هذا وسلام عيسى في الآية الثانية المعرف فيها السلام، ابتداء ولا ريب.