حواشى الخط وفي طواياه، وفي أغواره، وفي تعيين بعض تكوينه الذي يتميز به من غيره من الناس، وفي تمييز صاحب خط من صاحب خط آخر، وإن تشابه الخطان كل التشابه، بل ميزوا التقليد المتقن الخفي البارع من أصله الذي قلده، أو ميزوا الصادق من الكاذب. ومعنى ذلك أن "الخط" المسطور قابل لحمل هذه الدلائل الخفية المغرقة في الخفاء، وأن التوصل إلى استخراج هذه الدلائل ممكن أيضًا لمن تطلبه على وجهه الصحيح. هذا على أن أحدنا، وإن لم يكن خبيرا بقراءة "الخط" خبرة المتخصص، قد يصله كتاب من صديق، فيقع في نفسه وهو ينظر في خطه: إن صديقه قد كتب ما كتب على عجل، وأن أحرفه محفوفة بالملل، وإنه كتبه مجرد إبراء للذمة، وإن كان الكلام الذي سطره وكتبه يعبر ظاهره عن أشد الاهتمام وأشد العناية، وأشد الحرص على الصداقة. فإذا لقى صديقه الذي كتب هذا إليه، فأعلمه بما وقع في نفسه من دلالة خطه، قال له نعم، صدقت، هكذا كنت حين كتبت إليك. وأنا أحدثك بهذا عن واقع لا عن توهم.
فإذا كان هذا صادقا في شأن "الخط" وهو عمل من أعمال جارحة صماء بكماء لا تبين، فماذا تظن بأشرف قوة مبينة في بناء الإنسان، لم تستو لها قامته وتعتدل، ولم تطلق له يده، إلا لكي تكون اليد خادمة تقيد ما تنشئه هذه القوة العجيبة النبيلة، التي لولاها لَلَحِقَ من فوره بالبهائم على خلقتها وهيأتها يسعى على أربع. أيمكن أن يكون "الخط" -وسائر الفنون الدنيا: من نحت وتصوير وموسيقى جميعًا- قادرا على حمل آثار العواطف والأخلاق والشمائل، ثم لا تكون الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني التي تقيد بالخط، وهي الدالة على الفن الأعلى المتفرد بالسمو على سائر الفنون: الشعر والنثر والكتابة، غير قادرة على حمل هذه الآثار نفسها؟ أممكن هذا؟ كلا، هي على ذلك أقدر وأثبت وأقوم وأصدق شهادة. هي "الوثيقة الجامعة"، التي تميز إنسانا من إنسان (لا شاعرا من شاعر وبَس، أي، وحسب)، وعليها تنعكس صور حياته كلها ظاهرة وباطنة. و"التذوق" عندي هو الطريق إلى بعث هذه الصور، وإلى استنطاقها، وإلى حل رموزها المعقدة، وإلى بث الحياة في هامدها حتى تعود "إنسانا" يمشي ويتحرك ويتكلم ويغضب ويرضى، ويكذب ويصدق، ويخون