ويؤدي الأمانة، ويستقيم ويراوغ ويتهلل ويعبس، ويزهو ويتواضع، ويتألم ويبتهج، ويأنف ويستكين، ويسرق ويتصدق، ويعف ويفجر، إلى آخر ما لا يحصى مما يكون به الإنسان إنسانا، لا شاعرًا وبَس. هذا هو "التذوق" عندي، وقد أعفيت نفسي منذ بدأت من الحديث عما يريده الأدباء والكتاب بقولهم "التذوق"، ولكنه عندي معنى مغرق في الإبهام، قولا وتطبيقا.
فأنا أسألك الآن، أيها العزيز، أن تقرأ هذا، إن شئت، ببعض التأمل والتدبر، وتراجع قولك في مقالتك الثالثة "على أن تصور محمود شاكر النظرى للشعر: يحتاج إلى مراجعات وملاحظات. فلو تأملنا النصوص التي سقناها في هذه الدراسة من كلامه، لاكتشفنا للوهلة الأولى أنه يتخذ الشعر وثيقة نفسية يستخرج منها حياة أبي الطيب وطبائعه وعواطفه وآماله وآلامه وأحزانه، كما يتخذ منه وثيقة تاريخية، تسهم في تعديل أخبار الرواة القدماء أنفسهم أو تجريحها، أو استخلاص الصدق من نصوصها ونفي ما زيفه التذوق. وهذا مفهوم غير خصب للتذوق الفني، يحول العمل الأدبى إلى وسيلة لخدمة غاية خارجية. وبذلك يتحول الأدب إلى وثائق تاريخية أو اجتماعية أو نفسية، أو يصبح انعكاسا مباشرا لحياة الناس وأهوائهم ونزواتهم واصطراعهم في الحياة". وأنا لا أنتفي من شيء مما قلت، بل هو الحق كل الحق كما قلته، ولا أعده عيبا، ولا خدمة لغاية خارجية، بل هي غاية في الصميم.
ولكن، لو أنت فعلت ما سألتك، لاكتشفت للوهلة الأولى أيضًا أنك تستعمل لفظ "التذوق الفني" في أتم زينته، وأنى استعمل لفظ "التذوق" عاريا متجردا من كل زينة، وأنك تعد معنى اللفظ العارى المتجرد عندي وهو "التذوق" مطابقا تمام المطابقة للفظك المتأنق في أتم زينة عندك، وهو "التذوق الفني". ثم لاكتشفتَ أيضًا أنهما غير متطابقين في المعنى البتة، بل كل ما في الأمر أن لفظ "التذوق" لفظ مشترك بيني وبينك، له عند كل واحد منا معنى يصعب معه أن يتطابقا كل المطابقة. ثم لاكتشفتَ أيضًا أنك بذلك قد ظلمتنى حين جعلت معناتك في لفظ "التذوق" واقعة على معناته عندي .. وأنت أَلَبُّ وأَفْطَنُ من أن أدلك على الفروق بينهما، وأنا ممتنع عن الدلالة على ذلك، لأنى عاهدتك منذ