أسترجع أهوالها وأقيدها لك منه هذا المكان، ولذلك فسوف أنقل شيئًا مما كتبته قديما في مجلة المقتطف (المجلد ٩٧، ص: ٥٧، شهر يونيه ١٩٤٠)(١) حين شرعت في كتابة مقالات لم أتمها بعنوان: "علم معاني أصوات الحروف: سر من أسرار العربية، نرجو أن نصل إلى حقيقة في السليقة العربية" قلت:
"وأنا أريد بقول "معاني أصوات الحروف" ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف من المعاني النفسية التي يمكن أن تنبض بها موجة اندفاعه من مخرجه من الحلق أو اللهاة إلى الحنك أو الشفتين أو الخياشيم، وما يتصل بكل هذه من مقومات نعت الحرف المنطوق. وليست المعاني النفسية، أو العواطف، أو الإحساس، هي كل ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف. بل هو يستطيع أن يحمل أيضا صورا عقلية معبرة عن الطبيعة وما فيها من المادة، وما يتصل بذلك من أحداثها أو حركاتها أو أصواتها أو أضوائها، أو غير ذلك مما لا يمكن استقصاؤه، إلا بعد طول الممارسة لوحي الطبيعة في فطرة الإنسان. . . ." ثم قلت: "هذا جهد كنت بذلته قديما. والنفس ساكنة قارة هادئة .. ولكن الأيام انتزعتنى ورمت بي إلى حومة تتسعّر وتضطرب وتطغى بضجيجها على فترة النفس واجتماعها على الهدأة والهوينى والسكون، فكذلك ذهب أكثر ما تلقنته من المعاني نهبا ضائعا بين النسيان والغفلة وقلة المبالاة وطول الإهمال".
وهذا الذي كتبته قديما، أشد إيغالا في أعماق القضية، من كل ما تناولته في كلماتى اليوم. ومع ذلك، فإن في الواقع مؤيدا هو أشد دلالة على صدق القضية عندي. فالخط، مثلا، (وهو عمل من أهم أعمال اليد في تقييد "الكلام" وتثبيته بالتسطير على الورق وغيره)، يحمل في طوايا رسمه دلائل كثيرة عميقة على صاحبه الذي كتبه بيده ويحمل دلائل على أخلاق الكاتب وعاداته وطبائعه وحالاته وهيآته وسماته المختلفة المتباينة. وقد استطاع المتخصصون في قراءة ما وراء "الخط"، أن يصيبوا صوابًا كثيرا موفقا في قراءتهم لهذه الدلائل العالقة الناشبة في
(١) هكذا ذكر الأستاذ شاكر -رحمه الله-، والصواب: المجلد ٩٦، مارس ١٩٤٠، ص ٣٢٠. انظر المقالات هنا ٢: ٧٠٨ - ٧٠٩