للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأنت تتحدث حديثا عليه سمة الصدق كاملة فيما تظن، أما هو فقد يفاجئك باكتشاف ما لم تكن تتوقع أن يكشفه.

ونحن الذين نتحدث عن الشعر وعن تذوق الشعر، نقول أن الشرط الأول في جودة الشعر (أو جودة الفن عامة) أن يكون الشاعر "صادقا". وهذا شرط صحيح بلا ريب. ولكن ما السبيل إلى معرفة ذلك؟ أن يقول لنا الشاعر بلسانه أنه صادق، أو يكتب على رأس كل قصيدة "أنا صادق"؟ أم أقنع أنا بأن أفترض افتراضا أنه صادق، فيكون عندئذ صادقا! كلا هذين باطل لأول وهلة. لم تبق، إذن، وسيلة لمعرفة صدقه إلا من خلال الشعر نفسه، أي من خلال أحرفه وكلماته وجمله وتراكيبه ومعانيه. ومن أين يعرف صدقه في هذا؟ وكيف؟ ينبغي هنا أن نحترس من الوَهْم الذي يجعل مجرد مطابقه ما يقوله الشاعر لما نعتقده نحن أو نتوهمه دليل على صدقه في شعره. فهذا باطل أيضًا، لأن مخالفته كل المخالفة في الاعتقاد أو التوهم، ممكن أيضًا أن يكون فيما قاله صادقا كل الصدق وإن لم يقع كلامه عندنا موقع الرضى والقبول والتسليم. فلم يبق إلا طريق واحد: أن يكون الكلام المركب من الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب، وما تؤدى إليه من المعاني، كلها حاملًا لآثار عالقة في جميعها، أستطيع أنا أو أنت بالاعتماد على "التذوق" الذي وصفته لك، وكما وصفته لك، أن نحسه إحساسا ما، وبطريقة واعية منظمة بصيرة، قادرة على الاعتماد على هذه الحاسة السادسة التي تنشيء "الكلام" فينا، والتي تطيق أن "تتذوق"، الكلام الآتى إليها من خارج. ومناقشة هذه القضية للتوصل إلى غاياتها البعيدة، وإلى كشف النقاب عنها، وإلى إزالة الإبهام المحيط بلفظ "التذوق"، كما استعمله أدباؤنا وكُتابنا المحدثون بمجرد التوفيق من الله، لا بالنظر والاستنباط والتحصيل والتقرير، مسألة تحتاج إلى إفاضة وتتبع واستيعاب.

وقضية نشوب جميع الطبائع والعواطف والغرائز والأهواء وجميع السمات الظاهرة والباطنة، في الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني أيضًا، قضية صادقة عندي كل الصدق، بعد أن عانيت في سبيلها معاناة لا أستطيع أن