وهذا عيب، ولكنه ليس عيبي أنا وحدي. ففي كل لغة ألفاظ كثيرة جدًا تدل على المعاني المجردة التي لا تتجسد. ولكننا إذا أدخلنا هذه الألفاظ في الجمل المركبة، لم نجد مناصا من استعمال ألفاظ أخرى من الأفعال والصفات، تجعل الحديث عن هذه المعاني المجردة حديثا عن متجسد يكاد يرى بالعين، ويمس باليد .. وهذا التجسيد يقربنا إلى إدراك مضمون الحديث عنها، نعم، ولكنه يباعد بيننا وبين القدرة على الاحتفاظ بالأصل الأول، وهو أننا نتحدث عن معان مجردة لا تتجسد ولا تُرَى ولا تُمَسّ. . . وغياب القدرة على الاحتفاظ بهذا الأصل الأول (المعنى المجرد)، يباعد هو أيضًا بيننا وبين الشعور بوجوب العودة إلى مراجعة ما نجده في أنفسنا، أو ملاحظة ما يجرى في أنفسنا، مما له علاقة بهذه المعاني المجردة التي لا تتجسد. وبذلك يصبح الطريق إلى الامتناع، أو إلى مراجعة النفس، أو إلى محاولة اختبار ما نسمع أو نقرأ، طريقا مسدودا في أغلب الأحيان. وكذلك كان فقد كان حديثي كله يجعل "القدرة على البيان" وهو معنى مجرد مغرق في التجريد، شيئًا متجسد الصورة، متجسد العمل، فصار ما قلته في شأنها سهلا في السياق، ولكن ليس من السهل التسليم به لأول وهلة. وهذا ليس عيبى ولكنه عيب اللغة، لأنها، اضطرارا، تُجسد ما لا يَتَجَسَّد.
ومع ذلك، فالذي قلته على عيبه هذا، ليس أمرًا مجهولا لا يعرفه أحد: بل العكس هو الصحيح. فما من أحد منا إلا وهو يمارسه مرات بعد مرات. يمارسه حين يسمع من يكلمه (أو حين يقرأ شعرا، أو نثرا، أو رسالة). فيمس في دخيلة نفسه أن صاحبه كاذب، وإن كان ظاهر ألفاظه لا يدل على الكذب، أو أنه مراوغ، أو أنه حقود، أو أنه خبيث، أو أنه حيي، أو أنه عفيف، أو أنه رقيق، أو أنه منافق = فإذا سألته من أين عرف ذلك؟ لم يجد جوابا، ولم يدر ماذا يقول، وأحال الأمر كله إلى أنَّه: هكذا أحس! والعامة الذين لم يتعلموا قط، يفاجئونك أحيانًا كثيرة بالحكم على حديث رجل، بل على الرجل نفسه، حكما تنكره ويعيبك أنت المتعلم أن تعرف صحته، إلا بعد تجارب قد تطول، مع أنك كنت شاهده معهم. وكذلك طفلك الصغير، يكشف أحيانا ما تضمره في نفسك،