والذي يجعل قولنا "تذوقت الشعر" يسلم كل السلامة من المعاطب والمتالف، أن الشعر "كلام"، وهذه الحاسة السادسة هي التي تنشيء كل "كلام"، وهذا عملها الأول وهو "الإبانة". ثم هي نفسها التي تتلقى كل "كلام" يأتيها من خارج لتستبينه، وهذا هو عملها الثاني، وهو "الاستبانة". وهي وحدها، دون سائر الحواس الصم البكم المقصورة على صاحبها وحده، ودون سائر أخواتها في الحلقة المفرغة، هي وحدها المالكة لوسيلتين: مالكة لوسيلة عند صاحبها مترجمة مبلغة عنها هي نفسها وعن جميعهن، وهذه الوسيلة هي جارحة "اللسان" صاحب التذوق. ومالكة أيضًا لمستقبِل عند صاحبها وعند إنسان آخر غير صاحبها، يستقبل "الكلام" ويؤديه إلى أخت لها كامنة في بناء الإنسان الآخر، وهي جارحة "الأذن" صاحبة السمع. وهذا "اللسان" جارحة من جوارح الحواس الخمس الصُّمّ البُكْم المقصورة على صاحبها، المشتركة بين الإنسان والبهيمة. ولكنه حين تم بناء الإنسان، وصار البناء بجملته مكمنا لهذه القوة العجيبة النبيلة التي لولاها لخرب البناء، صار لهذا "اللسان" نفسه عمل آخر حاسم الدلالة، هو الترجمة عن هذه القوة المركبة من توأمين متداخلين لا يمكن الفصل بينهما، هما "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان". وعندئذ صار "اللسان" بهذه القوة الغريبة النبيلة ألصق وألزم، وسما بالتصاقه بها سموا حاسما باذخا، حين صار صاحب "النطق" عنها، وصاحب الترجمة، وصاحب التبليغ، حتى كاد يخرجه سموه بها عن أن يكون هو صاحب التذوق، في أصحاب خمس من الحواس الصُّمّ البُكْم! ولذلك سموا اللغة نفسها "اللسان"، وقالوا:"إنما المرء بأصغرية قلبه ولسانه"، أي بيانه.
اشتد لصوق "اللسان" بالقدرة على البيان لصوقا يستعصى على الفصل والانفصام، لأنه هو الآن مترجمها الوحيد في البناء كله، ولأنه هو وحده المبلغ عنها كل ما تنشئه من "كلام"، ولأنه هو وحده مظهر عملها المنفرد بالدلالة على كمونها في هذا البناء. فكذلك صار عملاه في "النطق" و"التذوق" عملين أخوين شقيقين متعانقين ثاويين في وطن واحد، وكاد يكون هذا الوطن