حملنى على أن أوثر هذا اللفظ وأجعله دالا على العمل الثاني من أعمال "القدرة على البيان" وهو "الاستبانة" هو أنى وجدت في نفسي أن عمل "الاستبانة" عندي وأنا أتأمله أشبه بعمل جارحة اللسان في تذوق الطعوم مرة بعد مرة، ثم أشبه بما يتسم به عمل اللسان في التذوق من سرعة الفعل، وسرعة انقضاء الفعل، وسرعة الحكم على الشيء الذي وقع عليه الفعل، أي هذا الشعور الخاطف بالحلاوة أو المرارة، أو الملوحة، أو الغضانية أو اللذع، وسائر ما يتولى اللسان الحكم عليه من طعوم الأشياء.
حسبنا هذا القدر من المسير في الطريق الموحش المهجور الذي رمت بي فيه، كما قلت، "محنة الشعر الجاهلي"، حين أخذتني قديما فقذفتنى قذفا في الأمر المخوف المهوب، الذي تنخلع عنده القلوب، وهو إعادة النظر في شأن "إعجاز القرآن" .. والآن، ليت شعرى هل استطعت أن أثير فيك بإلحاحي على التجزئة والتقسيم والتوضيح والتكرار، إحساسا ما يعمق هذه الأعجوبة التي أودعت في بناء الإنسان، ملثمة بالأسرار المتلونة بألوان من البوح والكتمان، تحجبه بالوميض المتتابع الذي يُعْشِى نظر المتأمل من تعاقب الإضاءة والإظلام، لا أدري، ولكني أجد في إحساسى عجزا فادحا عن ملاحقة هذه البروق الخاطفة المتواترة التي تنشأ على التأمل، ثم أحس عجزا أفدح عن تثبيت ما أراه في كلمات. بيد أنى أشعر الآن، مخطئا أو مصيبا أنى قد جعلت أمر "الاستبانة" التي تتولاها حاسة "القدرة على البيان"، ظاهر المعالم بعض الظهور فيما أتوهم، وأن بلوغي هذا المبلغ في تبين بعض معالمها، هو الذي جعلني أوثر أن أستبدل لفظ "التذوق" مكان لفظ "الاستبانة". ولما فعلت ذلك، كنت قد أصبت للفظ "التذوق" صاحبا يمكن أن يقوم مقام صاحبه الأول، وهو جارحة اللسان. وهذا الصاحب الجديد هو أيضًا جارحة أخرى (أو حاسة أخرى)، هي "القدرة على البيان"، وكذلك أوشك أن يسلم قولنا:"تذوقت الشعر" من الهلاك، بعد أن كان مهددا بأن يرمى على ركام من الكلام الساقط المرذول الذي فقد التجانس والتطاعم بين طرفين.