مِلْكا خالصا للقدرة على البيان و"النطق" هو أسنى الأخوين شرفا، وأعلاهما سلطانا وغلبة على "اللسان" والنطق هو قرين "الإبانة" أحد عملي "القدرة على البيان" فلا جرم أن يكون أخوه الضعيف القاصر، وهو عمل "اللسان" في "التذوق" قرينا لعملها في "الاستبانة"، لشدة التشابه بين العملين، (التذوق، والاستبانة) في طلب التمييز بين الأشياء، وفي تبين الخصائص الكامنة فيها، ثم في سرعة الفعل، وفي سرعة انقضاء الفعل، وفي سرعة الحكم على الشيء الذي وقع عليه الفعل كما قلت آنفا.
وإذن، فبحمد الله وتوفيقه، خرج قولنا:"تذوقت الشعر" من المأزق الذي كان فيه لفظا مشكلا مبهم الدلالة غارقا في الإبهام، كما قلت في المقالة السالفة، وخفت إلى نجدته صاحب له، شهم الشمائل نافذ الجراءة لم يكتف بأن ينتشله من الغرق في معاطب الإبهام والغموض أو بأن ينتاشه من دنس الهلاك هاويا في قرارة السقوط والخساسة، بل زاد فرفعه إلى مكان على من الشرف والسمو. وأي مكان أشرف وأسمى وأنبل، من أن يكون لفظ "التذوق" بديلا له الحق الخالص في النيابة عن لفظ "الاستبانة" وهي العمل الذي تتولاه أنبل قدرة في بناء الإنسان، وهي "القدرة على البيان". وقد أصاب كُتابنا وأدباؤنا المحدثون قدرا عظيما من التوفيق، حين جرى لفظ "التذوق" على ألسنتهم متأثرين بما يقابله في الأدب الأوربى الحديث. ولكن العجب العاجب عندي أن يقع هذا اللفظ في اللغات الأوربية الحديثة! من أين جاءهم؟ وأنا شديد الشك في أن يكون أغتام (١) الأعاجم وأجلافهم في القرون الوسطى قد أصابوا هذا القدر من التوفيق اللطيف الخفي من عند أنفسهم. ولا أظنه ينفعهم شيئًا زعمهم أنهم ورثة آداب اليونان الأوائل وورثة حضارتهم لأنى لم أقف في قراءتى على شيء يدل على أن عظماء اليونان قد قالوا في مباحثهم عن الشعر والخطابة واللغة:"تذوق الشعر" أو "تذوق الجمال" أو "تذوق الفن". ولو كان ذلك، لوجدنا أثره في كتب
(١) أغتام: جمع أغتم، وهو الذي لا يُفْصِح شيئًا لعُجمَته.