وعسى أن يكون صوابا أن أدمج السياق الأول في هذا السياق الثاني. فإن تكن كل حاسة من الحواس الخمس الصُّم البُكْم المقصورة على صاحبها وحده، (وهي الحواس المشتركة بين الإنسان والبهائم)، لها مَكْمَن وأداة صالحة لظهور عملها، هو جارحتها. فإن هذه الحاسة السادسة الخفية المبهمة المفصحة البريئة من الصَّمَم والبَكَم، لها هي أيضًا مَكْمَن هو بناء الإنسان، وهو أيضًا جارحتها، أي هو بجملته الأداة الصالحة لإظهار عملها، وعملها هو "البيان"، الذي يتميز به الإنسان من سائر البهائم. ومن أجل هذا المميز الغريب الحاسم، فارقها كل المفارقة في إطلاق يديه، وفي طواعية شفتيه للحركة، وفي استواء قوامه واعتداله ولأن هذا البناء كله هو الأداة الصالحة لإظهار عمل هذه الحاسة السادسة، صار ممكنا أن يكون كل ما تنشئه هذه الحاسة إنشاء، وهو "الكلام"، قابلا لظهور كل فعل باطن أو ظاهر من أفعال هذا البناء العجيب، وهو "الإنسان"، ويظل الأمر بعد ذلك عجبا وفوق العجب!
ولأنى حددت هذه القدرة النبيلة الغربية المذهلة حاسة من الحراس وجارحة من الجوارح، لم أبال بأن استبدل لفظ "التذوق"، الذي هو أصلا من عمل جارحة اللسان، مكان لفظ "الاستبانة" الذي هو أحد عملين تتولاهما هذه الحاسة السادسة، بل هو جزء لا يمكن أن يتجزأ من عملها الآخر "الإبانة" أي إنشاء الأحرف والكلمات والجمل، وتركيبها تركيبا دالا على المعاني الجائلة في الضمير المستور، على الهيئات الظاهرة التي يشف عنها هذا البناء الذي تكمن فيه، ثم تخرج جميعها حاملة آثارا مفصحة عن صاحبها المتميز عن إخوانه من البشر، بخصائصه الدالة عليه وعلى تفرده. وهذه الآثار موجودة حاضرة في "الكلام المركب" حضورا مستكِنًا في غضونه، أو عالقا بأحرفه وتركيبه، أو ناشبا في ثنايا الكلام، وفي طواياه، وفي أغواره القريبة والبعيدة.
ولم آخذ هذه الكلمة، وهي "التذوق"، عن تراث أسلافنا -رحمهم الله-، ولكني أخذتها عن المحدثين من كتابنا وأدبائنا، حيث وجدتهم يقولون:"تذوق الشعر"، و "تذوق الجمال" و"تذوق الموسيقى" و"تذوق الفن". والذي