المتقصفة العاجزة عن ملاحقة حركة هذه اللحظات الخاطفة من عمل "القدرة على البيان" في زمن "الاستبانة". ولا أدري، هل أنا متعجل مسئ، تدفعنى العجلة إلى الإخلال بسياق حديثي، أم ترانى عصيبا إذا أنا قلت لك الآن، هاهنا: إني أعد "القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة" حاسة سادسة في بناء الإنسان، هي أولى بالتقديم من الحواس الصُّم البُكْم المقصورة على صاحبها وحده، أولى من السمع، ومن البصر، ومن الذوق، ومن اللمس، ومن الشم، بالإثبات .. بل لعلها أولى بأن تعد جارحة كامنة في البناء كله، أشرف وأكرم من اليدين والرجلين والأذن والأنف والعينين واللسان، وهي الجوارح الظاهرة. لا يعيبها أن لا مَكْمَن لها تستقر فيه نعلمه وندركه، ويكون أداة صالحة لإظهار فعلها وعملها، كاللسان والأذن، مثلا، في السمع والبصر، لا، بل لعل مكمنها في الحقيقة هو هذا البنيان كله الذي يسمى "الإنسان"، والأداة الصالحة لإظهار عملها وفعلها هو بناء الإنسان نفسه، وكل ما في هذا البنيان خدم لها. ولأن "الإنسان" لو سلب هذه "القدرة على البيان" سلبا تاما، لعاد من فوره بهيمة من البهائم، لا معنى لإطلاق يديه، ولا لقدرة شفتيه على الحركة، ولا لاعتدال قوامه واستوائه، ولخرج يمشي على أربع، بلا فرق ظاهر بينه وبين سائر إخوانه من البهائم، وإذن، فقد خرب البناء كله، وسقط عنه "التكليف"، وزادت السوائم سائمة ترعى ما أخرج لها ربها من الأرض. وإن شئت الآن فتدبر هذه الآية: {الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، ثم هذه الآية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}، ثم هذه الآية:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ}، آيات ثلاث فيهن الحديث عن "خلق" الإنسان وإنشائه، ويقترن بذكر "الخلق" ذكر "البيان"، و"الأسماء" و "القلم"، وتأمل قوله سبحانه "علّم" في ثلاثتهن، فسترى الخبر الصادق يلوح كأنه نور ساطع يكشف عن حقيقة هذا "الإنسان" التي طمستها القرون والكتب، وعسى أن تقول معى: لولا البيان، لخرب هذا البنيان!