للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أنفسنا بالتأمل المستغرق، ولكننا نعجز عن أن نحدده تحديدًا قاطعًا ظاهرًا يبين عن قدر هذا الاختلاف أو نوعه.

ولذلك يقع التداخل والخلط عندنا بين أحكام "القدرة على البيان" في "زمن" الاستبانة، وبين أحكام العقل عليه في "زمن" التبين والتمييز لأنهما زمنان مختطفان متلاحقان متداخلان غير قابلين للإدراك والتثبيت.

بل يبلغ الأمر مبلغا أبعد من ذلك بكثير، وهذا عجب وفوق العجب: إن الكلام المركب من الأحرف والكلمات والجمل، تحمل في تركيبها أشياء أخرى غير آثار الطبائع والغرائز والأهواء والنوازع التي يطول جولانها من السرائر والضمائر المغيبة. نعم هي قادرة بفضل هذه القوة الغريبة النفسية العجيبة المنشئة للكلام، أن تُحَمِّل الأحرف والكلمات والجمل ضروبا أخرى من الدلالات الخفية والظاهرة، والكامنة والمنسابة، تدل على هيئة صاحبها، وعلى حركاته عند إنشاء الكلام، وعلى شمائله الظاهرة، وعلى سمته، وعلى صوته، حتى كأنك ترى صاحب الكلام ماثلًا أمامك، يشير، أو يتحرك، أو يهمس، أو يصرخ، أو يتلوى، أو يثنى جيده، أو يرفع رأسه فعل المندهش أو المستنكر، أو يميل جانبا كفعل الذي يسرّ إليك سرا، أو يغضى، أو يطرق، أو يسكت سكتة كالمتردد بين أن يتم كلامه أو يكف عن الكلام، أو يشيح بوجهه فعل المستنكف .. مئات لا تعد من السمات الظاهرة والخفية التي يتميز بها متكلم عن متكلم. كل ذلك ممكن أن تراه أو تحسه وهو يطل ملثما أو سافرا من خلل الأحرف والكلمات والجمل، مغروسا في حافاتها وحواشيها، بل مغروسا أيضًا في معاطف المعاني التي يدل عليها هذا الكلام المركب. عجب وفوق العجب! وهذا شيء تحسه أحيانا إحساسا خاطفا في الشعر وفي غير الشعر، ولكنا لا نطيل الوقوف عليه متأملين، بل نتجاوزه تجاوز المستهين الغافل.

هذه جملة من القول. حاولت أن أصورها لك، أيها العزيز، بهذه اليراعة (١)


(١) اليراعة: القلم هاهنا.