كل شيء في المبدأ أو المعاد إلى يوم القيامة، فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد؛ والنواهي بالتعظيم". وبين أن الحافظ يتحدث عن تصديق أخبار الله تعالى في كتابه، وعن أوامره سبحانه في كتابه؛ وعن نواهيه تعالى جده في كتابه القرآن العظيم. وهذا بمعزل عن توقيع سلطان أو أمير أو حاكم بخاتمه- ولا يمكن أن يقال إن التصديق بأخبار الله تعالى في كتابه، والانقياد والتعظيم لأوامره ونواهيه ينسحب على أوامر خليفة أو أمير أو صاحب سلطان أو عالم أيا كان. فإن في تراثنا أن عدى بن حاتم الطائيّ كان نصرانيا، فوفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب: فقال: يا عدي، اطرح هذا الوثن عن عنقك! قال عدى: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة. فقرأ هذه الآية:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم"، فدل هذا على أن الانقياد والتسليم والتعظيم، إنما هي لله وحده، ولرسوله الذي أرسله بهذا الكتاب مبلغا له، ومبينا عنه، وأنه لا أحد بعد ذلك يجب علينا الانقياد والتسليم لأوامره، حتى يصح أمره "حجة عقلية" ملزمة إذا وقعها وختم عليها بخاتمه.
هذا حق كلمة الحافظ ابن كثير، وهذا هو معناها، فنقل هذه القضية من طاعة الله؛ إلى طاعة البشر؛ أمر لا يعقل ولا يقال: ولا يصح نسبته إلى "التراث". إن صاحب "خرافة الميتافيزيقا"، وصاحب المذهب المعروف بالتدقيق في تحليل الألفاظ والقضايا، كان خليقا ألا ينقل هذه الجملة من معنى بعينه، إلى معنى آخر، لولا أنه فارق طريقه ومذهبه؛ ولجأ إلى الاستناد إلى "الانطباعات"، وإلى "مقدمات غير موثوق بصحتها، تنتج نتائج غير موثوق بصحتها أيضا"؛ كما قال عن نفسه.
هذا موقف غريب جدا، وأغرب منه أن يكون طريقا إلى البحث عن "تجديد الفكر العربي"، وعن "تمييز المعقول واللامعقول في تراث العرب". وهذا هو