وفي القديم والحديث، وفي الشرق والغرب، وعما يجده صاحب كل سلطان من لذة خفية بنفاذ أمره في الناس -ويقول إن كل من ولى أمرًا من أمور الناس، فبحق هذه الولاية يأمر وينهى، (بلا غضاضة في ذلك على عربي أو أعجمي أو أوربى! ). وصار بهذه الولاية مستوجبا أن يطاع في الأمر والنهي، وإلا بطلت الولاية ولم يكن لها معنى، ولم يكن للناس حاجة إلى حاكم أو وال أو رئيس أو وزير. وبهذا الحق المفروغ من التسليم به في جميع أمم الدنيا منذ كانت إلى أن تنقضى مدتها، وجب على كل مرءوس أن يطيع رئيسه في الأمر والنهي، فلفظ "الطاعة". عند الجاحظ لا يزيد على هذا: أن ينفذ أمر الرئيس، وأمر الرئيس لا يكون صحيحا موجبا للطاعة إلا بتوقيعه على الأمر، وعبر الجاحظ عن ذلك فقال:"بما يوجب الخاتم من الطاعة". ويبقى الجزء الآخر بعد صدور الأمر والتوقيع، وهو "التنفيذ"، كما نقول اليوم. وهذا "التنفيذ" هو الذي عبر عنه بقوله: "ويلزم من الحجة"، كما جاءت في نسخ كتاب الحيوان، ولكن كلمة "الحجة" وقع فيها تحريف النساخ، لأن صوابها هو "الخدمة"، وصواب العبارة كلها إذا هو:
"من السرور بنفاذ الأمر، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطاعة، ويلزم من الخدمة".
ولفظ "الخدمة"، بمعنى السعي في إنفاذ ما أمر به السلطان، أو صاحب الولاية، لفظ دائر في جميع كتب "التراث"، كما يسمونها، وهو يأتي في كل كتاب مقرونا بلفظ "الطاعة"، والجاحظ، والأمر لله وحده، جزء من "التراث"، يجرى كلامه على عادة أهل هذه اللغة، وعلى ما ألفته الأمة التي هو منها. والجاحظ أحرص من أن يقول أن "خاتم الولاة" يلزم الرعية التسليم لهم فيما سماه الدكتور "الحجة العقلية"، ولولا أن الدكتور زكي كان قد اعتقد في نفسه هذا الاعتقاد، بأن الأمة العربية يمكن أن توصف بأنها تسلم لولاة الأمر ما قالوا وأن أمرهم يصبح بتوقيع خاتمهم "حجة عقلية" يلزم الناس التسليم لها، ولو ناقض الأمر حجة العقل -لولا ذلك، لكان الدكتور خليقا أن ينتبه إلى موطن