ملاقاة المطعم والمشرب، وملاقاة الصوت المطرب، واللون المونق، والملمسة اللينة، من السرور بنفاذ الأمر، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطاعة، ويلزم من الحجة" (الحيوان ١: ٢٠٥)، وأرجو أن يلاحظ القارئ معنى الجملة الأخيرة من هذه العبارة، جملة: ". . يلزم من الحجة" أن الحجة تكون ملزمة إذا وقعها صاحب الأمر والنهي فينا، وختم عليها بخاتمه، وليذهب إلى جهنم عقل يقيس إلزام الحجة بمقاييس منطقه، ليرى أين تكون المقدمات العقلية التي تلزم بالنتيجة"، انتهى، مع بعض الاختصار.
ومرة أخرى أقول: إني لست بصدد المطالبة بالدليل على صحة ما جعله "خلقا عربيا متأصلا"، من تراث العرب وثقافتهم، ولكني أحب أن ألفت النظر إلى هذا الأسلوب المتوهج الثائر الفرح بما ظفر به في كلام الجاحظ، مما ظن أنه يؤيد فكرته السابقة عن "التراث العربي"، وإلى تكرار ما ظفر به في الكتابين جميعا. والسؤال الآن هو: هل أراد الجاحظ هذا المعنى الذي فهمه من عبارته؟ هل يصح في سياق نص كلام الجاحظ: أن الحجة العقلية في تراثنا تكون ملزمة للعقلاء من الناس، إذا وقعها صاحب السلطان، وختمها بخاتمه؟ هل هذا صحيح أن يكون الجاحظ قال ذلك أو عناه؟
وهذه الجملة التي قالها الجاحظ، مأخوذة من "كتاب الحيوان". في هذا الكتاب نشره وحققه الأستاذ عبد السلام هارون، وبذل فيه من الجهد قدرًا بالغًا. ومع ذلك فقد قال في مقدمة الكتاب ما نصه:"ليس يوجد في عصرنا من يستطيع أن يخرج هذا الكتاب مبرأ من العيب، سليما من التحريف"، وصدق فيما قال. ومن أجل ذلك تجده قد ألحق بكل جزء من أجزاء الكتاب، استدراكًا لما فاته، مما تجاوزه النظر، أو غمض الطريق إلى تصحيحه. وهذه الجملة التي نقلها الدكتور زكي، هي مما وقع فيه التحريف والتصحيف، بدلالة العقل، ثم بدلالة السياق، ثم بدلالة تاريخ هذه الأمة العربية، ومعلوم أن الجاحظ لم يكن ممن يلقى القول على عواهنه. فهو يتحدث عن كل صاحب سلطان في هذه الدنيا، في كل ملة من الملل، وفي كل زمان ومكان، وفي كل طائفة أو أمة،