في التراث أن من الكائنات ما لا يصلح إلا بأمير يؤمر عليه، وتلك هي -كما ورد في العقد الفريد: الناس، والفأر، والغرانيق، والكراكى، والنحل، والحشرات. . . كلها تأبى بحكم فطرتها أن يكون الأمر حوارا بين أفرادها، وتريده أوامر ونواهي وزواجر تهبط من الأعلى ليصدع بها الأسفل، وطوبى لمن كان لهم الأمر، ناسا كانوا أو حشرات". ولماذا كان ذلك كذلك يقول: "لأن الأمر والنهي -كما يقول الجاحظ- لذة أين منها الحواس .. فسرورك إذا كنت صاحب أمر أو نهي، سرور من طراز فريد، حين ينحدر أمر من شفتيك، فإذا هو نافذ، وحين توقع بخاتمك، فإذا الطاعة على الناس قد وجبت، بل، فإذا الحجة "العقلية" قد ألزمت كل ذي حجة. ولا تقل إنْ لم يَكُن في الأمر إلا بصمة الخاتم .. لا تقل ذلك، لأنك إنما تقوله لجهلك باللذة الكبرى .. إذا جلست من الناس مجلس الأمر والنهي، (اقرأ الحيوان للجاحظ ١: ٢٠٥). إنه إذا نزلت الأوامر والنواهي من أهل الطوابق العليا إلى أهل الطوابق السفلى، ". . فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد، والنواهي بالتعظيم (البداية والنهاية لابن كثير ١: ٥) "، انتهى باختصار.
ولأنى لم أنصب نفسي لمناقشة قضايا الكتابين، فإني سأصرف النظر عن موضوع "الفطرة"، وعن استدلاله بما جاء في "العقد الفريد": وعن الأسلوب الذي ساق فيه حكما غريبا عن "الأسلاف" وجعله شيئا مقررا مفروغا من صحته وسلامته. وإنما عملى هنا أن أنظر فيما نسبه إلى الجاحظ وإلى الحافظ ابن كثير، والكلام السالف الذي نقله عن الجاحظ، إنما هو استخراج وتأويل للفظ كلامه، جعله حجة مؤيدة للفكرة السابقة التي اعتقدها، وفسر كلامه على مقتضاها. ولكنه أتى بنص كلام الجاحظ في الكتاب الثاني (المعقول واللامعقول ص: ١٦٨)، قال:
"أأقول إنه خلق عربي متأصل -لا فرق بين أقدمين ومحدثين .. أن يتحكم بعضنا في رقاب بعض؟ .. إننا نسأل ههنا عن "العلة"، لأنه هو الوضع الشاذ الذي يتطلب التعليل، يقول الجاحظ: "أين تقع لذة درك الحواس، الذي هو