الغوص في "الثقافة"، فبجانب ما هو معروف به من سلامة النظر، ومن الأستاذية التي لا تنكر في الفلسفة. وهذا الذي خفته هو الذي وقع، ولولا ذلك لما كان معقولا أن يقول في (المعقول واللامعقول ص: ١١٧) إنه يستند فيما يكتب "إلى انطباعات أحسستها، إذ كنت أقلب صفحات التراث، أكثر مما استندت إلى مقدمات موثوق بصحتها، لتنتج نتائج موثوقا بصدقها أيضًا". ولا أدري كيف يغيب عن الدكتور أن مرتكب هذا الطريق يسير على غرر، ويضيع وقته ووقت الناس في كتابة ما يكتب، وأن التزام مثل هذا الطريق يفضى بالكاتب إلى التسرع في فهم الكلام وفي الاستنباط منه، وإلى صرف الكلام عن وجهه الصحيح إلى الوجه الذي أعده إعدادا قبل القراءة، وإلى ترك التثبت من صحة النص الذي بين يديه، مع قدرته، لو تأنى إلى معرفة وجه الخطأ فيه، أو إلى ما دخله من تصحيف أو تحريف.
مثال ذلك أنه يقرر تقريرا لا يشك هو في صحته، وبلا دليل يدل عليه، أن "الثقافة" العربية التي عاش بها العربي، تجعل له موقفا واحدا في الحياة:"وقفة من يجعل الثبات للسماء، والفناء للأرض. ففي السماء الأصول، وعلى الأرض الأشباح والظلال. أنها ثنائية حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله. . . فإذا كانت هذه هي الصورة الكونية، فلابد أن تكون كذلك هي الصورة لحياة الإنسان في مجتمعه، فلصاحب السلطان أن يريد، وعلى الناس أن يطيعوا. الكلمة عندنا لصاحب القوة، والقول النافذ لصاحب الجاه"(تجديد الفكر ص ٢٩٤ - ٢٩٦). وهذه الفكرة التي لا نجد دليلا واحدا يدل عليها، إنما هي فكرة ثابتة سابقة على قراءة "التراث"، وهي أيضا منتشرة في الكتابين جميعا. فلننظر الآن كيف طلب الدليل على صحتها من "التراث" في الكتابين جميعا. قال في (تجديد الفكر ص: ٤٦ - ٤٨).
"لم يكن في ساحة الفكر عند الأسلوب حوار حر إلا في القليل النادر"، لماذا؟ يقول: لأننا "قوم على الفطرة، فأي عجب إذا سلكنا أنفسنا مع الفطرة فيما فطرها عليه فاطر السماء والأرض! ". وكيف كان ذلك؟ يقول: "قد ورد