للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ناس يزعمون أن الله تعالى خلق السموات قبل الأرض، وأن قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ (١) لم يجب ب (ثم) تأخير خلق السماء منه ومنهم مقاتل بن سليمان، ومنه دعوى من يدعي أن (ثم) لا توجب تأخير ما بعدها من قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٢) وقد علم أن الاهتداء يتأخر عن التوبة والإيمان والعمل الصالح، وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ (٣) وليست التوبة متأخرة عن الاستغفار.

قال أبو سعيد: هذا كله يخرج على الموضع الصحيح في (ثم) من تأخيرها ما بعدها عما قبلها بتأويل يشهد به كلام العرب، أما قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ * (٤)، فإن الاستواء بمعنى الاستيلاء كان، أو بمعنى غيره لا يصح إلا على الموجودات بعد خلقه إياها، والعرش داخل في خلق السموات والأرض، ثم صرفها ودبرها كيف شاء قاهرا لها.

وقال الفراء: (ثم) تدل على تأخير الخبر في كلام المخبر على أنه متأخر في أصل البنية فتقديره في التلخيص: هو الذي خلق السموات والأرض، ثم اسمعوا إذا الخبر الأخير الذي ذكر لكم بعد الخبر الأول، وهو أنه استوى على العرش، ف (ثم) أوجبت تأخير كلام بعد كلام، وإفادة بعد إفادة. ومثله من كلام العرب أن الإنسان يعدّد إحسانه فيقول: فعلت بك اليوم وأعطيتك، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر، وأما قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٥) فليس التولي: الانصراف عنهم، وإنما معناه: تنحّ عنهم بعد إلقاء الكتاب إليه، بحيث يكون عنك بمرأى ومسمع، فانظر ماذا يرجعون من جواب الكتاب.

وأما خلق الله الأرض قبل السماء على ظاهر قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ (٦)، فهو الصحيح الذي أقول به، وهو المأثور عن ابن عباس، ومجاهد،


(١) سورة فصلت، الآية: ١١.
(٢) سورة طه، الآية: ٨٢.
(٣) سورة هود، الآية: ٩٠.
(٤) سورة الأعراف، الآية: ٥٤ - ويونس: ٣ - والرعد: ٢ - والفرقان: ٥٩ - والسجدة: ٤ - والحديد: ٤.
(٥) سورة النمل، الآية: ٢٨.
(٦) سورة فصلت، الآية: ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>