للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذان الفصلان مشكلان، فإنك قلت: إنهم يرسلون كثيرًا، وأن هذا في الروايات كثير يكثر تعداده (١).

وقلت: إن المعنعن يُحمَل على الاتصال حتى يتبين الانفصال (٢)، وذلك ببادىء الرأي متناقض.

وقد كنتُ أَرَى قديمًا إبّان كنت مُقَلّدًا لك في دعوى الإجماع في أن "عن" محمولة على الاتصال ممن ثبتت معاصرته لمن رَوَى عنه أَنَّ مَنْ عنعن عمن سمع منه ما لم يَسمع مدلس، وكنتُ أرى أن دليلك على صحة مذهبك إنما ينتهض بهذا، وأُوافق في ذلك الإمام أبا عمرو بن الصلاح، حيث احتج لصحة هذا المذهب بأنه لو لم يكن قد سمعه منه لكان بإطلاقه الرواية عنه من غير ذكر الواسطة بينه وبينه مدلسا (٣)، وكان ذلك عندي دليلًا راجحًا.

وأُضيفُ إلى ذلك ما استدل به أيضا الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر، حيث قال: ومن الدليل على أن "عن" محمولة عند أهل العلم بالحديث على الاتصال حتى يتبين الانقطاع فيها، ما حكاه أبو بكر الأثرم، عن أحمد بن حنبل، أنه سئل عن حديث المغيرة ابن شعبة -رضي الله عنه-: "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ أعلى الخف وأسفله"، فقال: هذا الحديث ذكرته لعبد الرحمن بن مهدي، فقال: عن ابن المبارك أنه قال: عن ثور: حُدِّثتُ عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، وليس فيه المغيرة، قال أحمد: وأما الوليد فزاد: "عن المغيرة"، وجعله ثور عن رجاء، ولم يسمعه ثور من رجاء؛ لأن ابن المبارك قال فيه: عن ثور: حُدِّثتُ عن رجاء، قال أبو عمر بن عبد البر: إلا ترى أن أحمد بن حنبل عاب على الوليد بن مسلم قوله: "عن" في منقطع لِيُدخِله في الاتصال، قال: فهذا بيان أن "عن" ظاهرها الاتصال، حتى يثبت فيها غير ذلك، قال: ومثل هذا عن العلماء كثير.

قال ابن رُشيد: وهذا الدليل الذي استدل به أبو عمر بن عبد البر كما تراه في غاية الضعف، فإنه استدلال بمسألة جزئية، والوليد بن مسلم معروف بالتدليس، بل


(١) هذا ذكره ابن رُشيد بالمعنى، وهو مأخوذ من قول الإمام مسلم: "فلما رأيتهم استجازوا رواية الحديث بينهم هكذا على الإرسال من غير سماع .... " المقدّمة ص (٢٤) ومن قوله: "فجائز لكل واحد منهم أن ينزل في بعض الرواية فيسمع من غيره عنه بعض أحاديثه، ثم يُرسله عنه .... "، ومن قوله: "وما قلنا من هذا موجود في الحديث مستفيض .... "، ومن قوله: "الأئمة الذين نقلوا الأخبار أنهم كانت لهم تارات يُرسلون فيها الحديث إرسالًا ... ". أفاده محقق "السنن الأبين" ص ١٢١.
(٢) وهذا أيضًا مذكور بالمعنى من قول الإمام مسلم بعد أن ذكر شرطه: "فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسّرنا، فالرواية على السماع أبدًا حتى تكون الدلالة التي بيّنّا. "المقدّمة" ص ٢٣.
(٣) انظر المقدّمة ص ٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>