للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأهل الشام؛ للعداوة البينة في الاعتقاد، ويلتحق بذلك ما يكون سببه المنافسة في المراتب، فكثيرًا ما يقع بين العصريين الاختلاف، والتباين لهذا وغيره، فكل هذا ينبغي أن يُتَأَنَّى فيه، ويُتَأمّل، وما أحسن ما قال الإمام أبو الفتح القشيري -يعني ابن دقيق العيد-: أعراضُ الناس حُفْرة من حُفَر النار، وَقَفَ على شفيرها طائفتان: الحكام والمحدثون، هذا أو معناه. انتهى (١).

(الثاني): قال الحافظ رحِمَهُ اللهُ تعالى أيضًا: وينبغي أن يُتأمّل أيضا أقوالُ المزكين ومخارجها، فقد يقول العدل: فلان ثقة، ولا يريد به أنه ممن يُحتَجُّ بحديثه، وإنما ذلك على حسب ما هو فيه، ووُجِّهَ السؤالُ له، فقد يُسأل عن الرجل الفاضل المتوسط في حديثه فيُقرَن بالضعفاء، فيقال: ما تقول في فلان وفلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يُريد أنه ليس من نمط من قُرن به، فإذا سئل عنه بمفرده بَيَّن حاله في التوسط، فمن ذلك أن الدُّوريّ قال: سئل ابن معين عن محمد بن إسحاق، فقال: ثقة، فحكى غيره عن ابن معين أنه سئل عن ابن إسحاق وموسى بن عُبيدة الرَّبَذِيّ، أيهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده، فقال: صدوق وليس بحجة. ومثله أن أبا حاتم قيل له: أيهما أحب إليك يونس أو عقيل؟ فقال: عقيل لا بأس به، وهو يريد تفضيله على يونس، وسئل عن عقيل وزمعة بن صالح، فقال: عقيل ثقة متقن. وهذا حكم على اختلاف السؤال، وعلى هذا يُحمَل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة أهل الجرح والتعديل، ممن وَثَّق رجلًا في وقت وجرحه في وقت آخر، وقد يَحكُمون على الرجل الكبير في الجرح -يعني لو وُجد فيمن هو دونه لم يُجرح به، فيتعين لهذا حكاية أقوال أهل الجرح والتعديل بنصها؛ ليتبين منها، فالعلة تخفى على كثير من الناس إذا عُرض على ما أصلناه. انتهى (٢).

(الثالث): قال الحافظ رحمه الله تعالى أيضًا: قال ابن المبارك: مَن ذا سَلِم من الوهم؟ وقال ابن معين: لست أعجب ممن يُحَدّث فيخطئ، إنما أعجب ممن يحدث فيصيب.

قال الحافظ: وهذا أيضا مما ينبغي أن يُتوقّف فيه، فإذا جُرح الرجل بكونه أخطأ في حديث، أو وَهِمَ، أو تفرد، لا يكون ذلك جرحًا مستقرا، ولا يرد به حديثه، ومثل هذا إذا ضُعِّف الرجل في سماعه من بعض شيوخه خاصة، فلا ينبغي أن يُرَدّ حديثه كله لكونه ضعيفًا في ذلك الشيخ. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا روى الثقة حديثا، وإن لم يروه غيره، فلا يقال له: شاذّ، إنما الشاذ أن يروي الثقات حديثا على وجه، فيرويه


(١) "لسان الميزان" ج: ١ ص: ١٧.
(٢) المصدر السابق.

<<  <  ج: ص:  >  >>