إذ العلم بالعدم لا يُتصوّر، والجارح يقول: أنا علمتُ فسقه، فلو حكمنا بعدم فسقه كان الجارح كاذبًا، ولو حكمنا بفسقه كانا صادقين فيما أخبرا به، والجمع أولى ما أمكن؛ لأن تكذيب العدل خلاف الظاهر. انتهى.
وإلى ذلك أشار الخطيب بما حاصله أن العمل بقول الجارح غير متضمّنة لتهمة المزكي بخلاف مقابله. قال: ولأجل هذا وجب إذا شهد شاهدان على رجل بحقّ، وشهد له آخران أنه قد خرج منه أن يكون العمل بشهادة من شهد بالقضاء أولى؛ لأن شاهدي القضاء يصدّقان الآخرين، ويقولان: علمنا خروجه من الحقّ الذي كان عليه، وأنتما لم تعلما ذلك، ولو قال شاهدا ثبوت الحقّ: نشهد أنه لم يخرج من الحقّ لكانت شهادة باطلة.
لكن ينبغي تقييد الحكم بتقديم الجرح بما إذا فُسّر، وما تقدّم قريبًا يساعده، وعليه يُحمل قول من قدّم التعديل، كالقاضي أبي الطيّب الطبريّ وغيره، أما إذا تعارضا من غير تفسير فالتعديل كما قاله الحافظ المزّيّ وغيره.
وقال ابن دقيق العيد: إن الأقوى حينئذ أن يُطلب الترجيح؛ لأن كلا منهما ينفي قول الآخر، وكذا قيّده الفقهاء بما إذا أطلق التعديل، أما إذا قال المعدّل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه تاب منه وحسنت توبته، فإنه يقدّم المعدّل ما لم يكن في الكذب على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وكذا لو نفاه بطريق معتبر، كأن يقول المعدّل عند التجريح بقتله لفلان في يوم كذا ظلمًا: إن فلانًا المشار إليه قد رأيته بعد هذا اليوم، وهو حيّ، فإنه حينئذ يقع التعارض لعدم إمكان الجمع، ويُصار إلى الترجيح، ولذا قال ابن الحاجب: أما عند إثبات معيّن، ونفيه باليقين فالترجيح.
وقيل: إن كان المعدّلون أكثر عددًا قدّم التعديل، حكاه الخطيب عن طائفة، وصاحب "المحصول"؛ لأن الكثرة تُقوّي الظنّ، والعمل بأقوى الظنين واجبٌ كما في تعارض الحديثين.
قال الخطيب: وهذا خطأ، وبُعدٌ ممن توهّمه؛ لأن المعدّلين وإن كثُروا ليسوا يُخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك، وقالوا: نشهد أن هذا لم يقع منه لخرجوا بذلك عن أن يكونوا أهل تعديل أو جرح؛ لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصحّ ويجوز وقوعه، وإن لم يعلموه، فثبت ما ذكرناه، وإن تقديم الجرح إنما هو لتضمّنه زيادةً خفيت على المعدّل، وذلك موجود مع زيادة عدد المعدّل ونقصه ومساواته، فلو جرحه واحدٌ، وعدّله مائة قُدّم الواحد لذلك.
وقيل: يرجح بالأحفظ، حكاه البلقينيّ في "محاسن الاصطلاح".