للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذكره، ولأن الناس مختلفون في أسباب الجرح، فيُطلق أحدهم الجرح بناء على ما اعتقده جرحا، وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه؛ لينظر هل هو قادح أو لا، قال أبو عمرو بن الصلاح، وهذا ظاهر مُقَرَّر في الفقه وأصوله، وذكر الخطيب أنه مذهب الأئمة، من حفاظ الحديث، كالشيخين وغيرهما، ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم، كعكرمة، وعمرو بن مرزوق، واحتج مسلم بسُويد ابن سعيد، وجماعة اشتهر الطعن فيهم، وهكذا فعل أبو داود، وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فُسِّر سببه، ويدل على ذلك أيضا أنه ربما استُفْسِر الجارح، فذكر ما ليس بجرح، وقد عقد الخطيب لذلك بابا، رَوَى فيه عن محمد بن جعفر المدائني قال: قيل لشعبة: لم تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يَركُض على بِرْذَون (١) فتركت حديثه. ورَوَى عن مسلم بن إبراهيم أنه سئل عن حديث صالح الْمُرِّيّ، فقال: وما تَصنَع بصالح؟ ذكروه يوما عند حماد بن سلمة، فامتخط حماد. ورَوَى عن وهب بن جرير قال: قال شعبة: أتيت المنهال بن عمرو، فسمعت صوت الطنبور فرجعت، فقيل له: فهلا سألت عنه، إذ لا يعلم هو؟ . ورَوينا عن شعبة قال: قلت للحكم بن عتيبة: لِمَ لَمْ تَرْوِ عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام وأشباه ذلك.

قال الصيرفي: وكذا إذا قالوا: فلان كذاب، لا بد من بيانه؛ لأن الكذب يحتمل الغلط، كقوله: كذب أبو محمد.

ولَمّا صحح ابن الصلاح هذا القول أَوْرد على نفسه سؤالًا، فقال: ولقائل أن يقول: إنما يَعتَمِد الناس في جرح الرواة ورَدَّ حديثهم على الكتب التي صَنَّفَها أئمة الحديث في الجرح والتعديل، وقَلَّما يتعرّضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم: فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء، وهذا حديث ضعيف، أو حديثٌ غير ثابت، ونحو ذلك، واشتراط بيان السبب يُفضي إلى تعطيل ذلك، وسَدِّ باب الجرح في الأغلب الأكثر.

ثم أجاب عن ذلك بقوله: وأما كتب الجرح والتعديل التي لا يُذكَر فيها سبب الجرح، فإنّا وإن لم نعتمدها في إثبات الجرح والحكم به، ففائدتها التوقّف فيمن جرحوه عن قبول حديثه؛ لِمَا أَوقع ذلك عندنا من الرِّيبة القوية فيهم، فإن بحثنا عن حاله، وانزاحت عنه الرِّيبة، وحصلت الثقة به قَبِلنا حديثه، كجماعة في "الصحيحين" بهذه المثابة.


(١) الركض: استحثاث الدابّة بالرجل للعدو. و"البرذون" -بكسر الباء، وبالذال المعجمة: الجافي الخِلْقة الجلد على السير في الشعاب والوعر من الخيل، غير العربية، كما ذكره السخاويّ في "فتح المغيث".

<<  <  ج: ص:  >  >>