من وجهته، وتتبّعوه من مظانّه، وتقرّبوا إلى الله باتباعهم سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وطلبهم لأخباره برّا وبحرًا، وشرقًا وغربًا، ولم يزالوا في التنقير عنها، والبحث لها، حتّى عرفوا صحيحها، وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها إلى الرأي، فنبّهوا على ذلك، حتى نجم الحقّ بعد أن كان عافيا، وبسق بعد أن كان دارسًا، واجتمع بعد أن كان متفرّقًا، وانقاد للسنّة من كان عنها معرضًا، وتنبّه عليها من كان غافلًا، وقد يعيبهم الطاعنون بحملهم الضعيف، وطلبهم الغريب، وفي الغرائب الداء، ولم يحملوا الضعيف والغريب لأنهم رأوهما حقّا، بل جمعوا الغثّ والسمين، والصحيح والسقيم؛ ليميّزوا بينهما، ويدلّوا عليهما، وقد فعلوا ذلك. انتهى باختصار.
وقال ابن حبّان: أخبرني الحسن بن عثمان بن زياد، قال: حدّثنا محمد بن منصور، قال: مرّ أحمد بن حنبل على نفر من أصحاب الحديث، وهم يَعْرِضون كتابًا لهم، فقال: ما أحسب هؤلاء إلا ممن قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أُمّتي على الحقّ حتى تقوم الساعة"، قال ابن حبّان: ومن أحقّ بهذا التأويل من قوم فارقوا الأهل، والأوطان، وقنعوا بالكسر والأطمار، في طلب السنن والآثار، يجولون البراري والقفار، ولا يبالون بالبؤس والافتقار، متّبعين لآثار السلف الماضين، وسالكين ثَبَج محجّة الصالحين برد الكذب عن رسول ربّ العالمين، وذبّ الزور عنه حتى وضح للمسلمين المنار، وتبيّن لهم الصحيح من الموضوع والزور من الأخبار. انتهى.
وإلى ما ذُكر أشرت في منظومتي المذكورة بقولي:
لَمّا حَمَى اللهُ الْكِتَابَ الْمُنْزَلَا ... عَنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُبدَّلَا
أَخَذَ أَقْوَامٌ يَزِيدُون عَلَى ... أَخْبَارِ مَنْ أَرْسَلَهُ لِيَفْصِلَا
فَأَنْشَأَ اللهُ حُمَاةَ الدِّينِ ... يُمَيِّزُونَ الْغَثَّ عَنْ سَمِينِ
قَدْ أَيَّدَ اللهُ بِهِمْ أَعْصَارَا ... وَنَوَّرُوا الْبِلَادَ وَالأَمْصَارَا
وَحَرَسُوا الأَرْضَ كَأَمْلَاكِ السَّمَا ... أَكْرِمْ بِفُرْسَانٍ يَجُولُونَ الْحِمَى
وَقَالَ سُفْيَانُ الْمَلَائِكَةُ قَدْ ... حَرَسَتِ السَّمَاءَ عَنْ طَاغٍ مَرَدْ
وَحَرَسَ الأَرْضَ رُوَاةُ الْخَبَرِ ... عَنْ كُلِّ مُجْرِمٍ مَرِيدٍ يَفْتَرِي
وَابْنُ زُرَيْعٍ قَالَ قَوْلًا يُعْتَبَرْ ... لِكُلِّ دِينٍ جَاءَ فُرْسَانٌ غُرَرْ
فُرْسَانُ هَذَا الدِّينِ أَصْحَابُ السَّنَدْ ... فَاسْلُكْ سَبِيلَهُمْ فَإِنَّهُ الرَّشَدْ
وَابْنُ الْمُبَارَكِ الْجَلِيلُ إِذْ سُئِلْ ... عَمَّا لَهُ الْوَضَّاعُ كَيْدًا يَفْتَعِلْ
قَالَ تَعِيشُ دَهْرَهَا الْجَهَابِذَهْ ... حَامِيَةً تِلْكَ الْغُثَاءَ نَابِذَهْ
وَأَخَذَ الرَّشِيدُ زِنْدِيقًا بَغَى ... فَقَالَ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ أَلْفٍ طَغَا
فَقَالَ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ فَزَارِي ... وَابْنِ الْمُبَارَكِ الْجَلِيلِ الدَّارِي