ولكنها أخلاق النبوة اصطنعت ببلسم العفو، والصفح والتسامح أولئك القادة والسادة من الأعداء في مكة فتحولوا طائعين مختارين إلى عمالقة تفانوا في خدمة الإِسلام، فكانوا من حماته وكبار بناة دولته. كانوا من صانعى الانتصارات الحاسمة التي مكنت للإِسلام في الشام والعراق وفارس ومصر وأفريقيا، مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح .. الأول قاد كتيبة الفدائيين في معركة اليرموك فدفع حياته مع أربعمائة من الفدائيين (الكوماندوس) ثمنًا لإِيقاف زخم الهجوم الروماني الذي كاد يسحق جيش الإِسلام الصغير.
والثاني قاد الأسطول الإسلامي إلى أعظم انتصار بحرى يشهده البحر الأبيض المتوسط حتى اليوم وذلك في معركة الصوارى الشهيرة. وكلا الرجلين كانا قد حكم عليهما بالإِعدام قبل فتح مكة، فعفى عنهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - واصطفاهما قادة حرب رميا بأنفسهما في أتون المعارك لنصرة الإِسلام. وأمثالهما كثير من الطلقاء الذين حقن النبي - صلى الله عليه وسلم - دماءهم بعد أن استحقوا الإِعدام يوم الفتح.
- ٢ -
لقد عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بطاح الحديبية مع قريش صلحًا تاريخيًا في السنة السادسة من الهجرة، وما كان - صلى الله عليه وسلم - فكر في التنكر لبند من بنود هذا الصلح الذي وضع الحرب بين قريش وكنانة من جهة، وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخزاعة من جهة أخرى لمدة عشر سنوات، يعيش المسلمون والمشركون فيها بعضهم لبعض سلمًا بمعنى كلمة سلم.
وقد التزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكل دقة متناهية ببنود هذا الصلح فطبقه نصًّا وروحا، فبرهن (عمليًّا) على أصالة الأخلاق الإِسلامية في الالتزام بمبدأ الوفاء تجلَّى تمسكه بهذه الأخلاق الكريمة في تسليم شابين مسلمين إلى أهلهما المشركين وحبر وثيقة الصلح لم يجف بعد، فعل ذلك رغم الغم القاتل الذي نزل بعامة أصحابه لهذا التصرف الذي يحمل في ظاهره طابع