إن هذا الكتاب (فتح مكة) يتضمن أرقى الدروس وأعظم العبر التي يمكن للعاقل المنصف الحصيف - حاكمًا كان أو محكومًا - أن يستخلصها ويعيها من تصرفات الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وتصرفات صحبه الكرام. سواء في العدل والإِنصاف وشرف المعاملة، أو الوفاء بالعهد والوقوف عند شرف الكلمة، ثم العفو عند المقدرة وتوفر القوة الساحقة الكاملة المؤهلة، كى يبلغ خصم من خصمه ما يريد (لو أراد) من تنكيل وتعذيب وإبادة.
عشرة آلاف مقاتل من المسلمين تسيطر على مكة، معقل أعظم وألد أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويلقى أهلها السلاح مقهورين، فيشملهم جميعًا عفو الرسول القائد والمنتصر، وهم الذين ائتمروا به وهدروا دمه وطاردوه تحت كل سماء، ولم يتركوا موطنًا، كانوا يظون أنهم قادرون على القضاء عليه فيه - صلى الله عليه وسلم - إلا وقاتلوه فيه, ومع ذلك: لم يجد شيء مما يصل إلى رؤوس القادة العاديين من نشوة الانتصار التي تجعل صاحبها يولغ في الدماء انتقامًا لنفسه ممن نكلوا به وأذلوا أصحابه يوم ضعفهم .. لم يجد شيء من تلك النشوة يوم الفتح الأعظم سبيلًا إلى رأس النبي القائد المنتصر - صلى الله عليه وسلم -، بل كانت الشفقة والرحمة والصفح والعفو والتسامح الطابع الوحيد لتصرف الرسول القائد المنتصر، في ذلك اليوم التاريخي.
ماذا تظنون أنى فاعل بكم يا معشر قريش؟ ؟ .
قالوا .. أخ كريم وابن أخ كريم.
قال .. اذهبوا، فأنتم الطلقاء.
تلك الكلمات النبوية توّج بها الرسول القائد انتصاره على أهل مكة حين ضمنها العفو العام عنهم وهو عند باب الكعبة. في الوقت الذي كانت فيه قلوب سادات مكة تركض بين جنوبهم خوفًا من أن ينتقم منهم لنفسه فيبعث بهم إلى القبور.