وَأَشْرَفُ هَذِهِ الأَنْوَاعِ النَّوعُ الأَوَّلُ، وَالبَقِيَّةُ هُم مِنْ قِسْمِ المُبَاحِ؛ إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا مَا يَقْتَضِي التَّعَبُّدَ فَتَصِيرُ عِبَادَةً، فَالإِنْسَانُ يُحِبُّ وَالِدَهُ مَحَبَّةَ إِجْلَالٍ وَتَعْظِيمٍ؛ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا نِيَّةُ بِرِّ الوَالِدَينِ صَارَتْ عِبَادَةً.
وَكَذَلِكَ المَحَبَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ -كَالأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالمَلْبَسِ وَالمَسْكَنِ- إِذَا قَصَدَ بِهَا الاسْتِعَانَةَ عَلَى عِبَادَةٍ صَارَتْ عِبَادَةً.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى مَا نَوَى المُؤْمِنُ بِتَنَاوُلِ شَهَوَاتِهِ المُبَاحَةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ؛ كَانَتْ شَهَوَاتُهُ لَهُ طَاعَةً يُثَابُ عَلَيهَا، كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ﵁: (أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيتُ جُزْئِي مِنَ النَّومِ، فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللهُ لِي؛ فَأَحْتَسِبُ نَومَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَومَتِي)، يَعْنِي أَنَّهُ يَنْوِي بِنَومِهِ التَّقَوِّي عَلَى القِيَامِ فِي آخِرِ اللَّيلِ؛ فَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ نَومِهِ كَمَا يَحْتَسِبُ ثَوَابَ قِيَامِهِ (١).
- قَولُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ﴾ نَزَلَتْ فِيمَنْ رَضِيَ بِالمُكْثِ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرْ؛ مَحَبَّةً لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ وَإِيثَارًا لَهَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ وَذَمٌّ لِمَنْ قَدَّمَ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى؛ فَكَيفَ بِمَنْ قَدَّمَ أَحَدَهَا فَقَط!
وَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَّمَ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ﷺ؛ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَافِرًا خَارِجًا مِنَ المِلَّةِ كَحَالِ أَصْحَابِ القِسْمِ الأَوَّلِ -أَصْحَابِ مَحَبَّةِ العُبودِيَّةِ-، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ البُخَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ ﵁؛ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: يَا
(١) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٤٣٤١) عَنْ أَبِي بُرْدَةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute