مِنْ خِدْمَةِ سَيِّدٍ إِلى آخَرَ شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ كَشَأْنِ الآلافِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ الأَرِقَّاءِ الذِينَ كَانُوا يَمْلأُونَ قُصُورَ بِلادِ الرُّومِ.
وَقَدْ أَتَاحَ ذَلِكَ لِصُهَيْبٍ أَنْ يَنْفُذَ إِلى أَعْمَاق الْمُجْتَمَعِ الرُّوِمِيِّ، وَأَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ مِنْ دَاخِلِه، فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ مَا يُعَشِّشُ فِي قُصُورِهِ مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْمُوبقات وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ مَا يُرْتَكَبُ فِيهَا مِنْ الْمَظَالِمِ وَالْمَآثِمِ. فَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ وَازْدَرَاه.
وَكَانَ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ:
إِنَّ مُجْتَمَعًا كَهَذَا لا يُطَهِّرُهُ إِلا الطُّوفَانُ.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ صُهَيْبًا قَدْ نَشَأَ فِي بِلادِ الرُّومِ وَشَبَّ عَلَى أَرْضِهَا وَبَيْنَ أَهْلِيهَا.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ نَسِيَ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ كَادَ يَنْسَاهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْ بَالِهِ قَطُّ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحْرَاءِ، وَلَمْ تَفْتُرْ أَشْوَاقُهُ لَحْظَةً إِلى الْيَوْمِ الذِي يَتَحَرَّرُ فِيهِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَيَلْحَقُ بِبَنِي قَوْمِهِ.
وَقَدْ زَادَهُ حَنِينًا إِلى بِلادِ الْعَرَبِ فَوْقَ حَنِينِهِ، أَنَّهُ سَمِعَ كَاهِنًا مِنْ كَهَنَةِ النَّصَارَى يَقُولُ لِسَيِّدٍ مِنْ أَسْيَادِهِ:
لَقَدْ أَطَلَّ زَمَانٌ يَخْرُجُ فِيهِ مِنْ مَكَّةَ فِي جَزِيزَةِ الْعَرَبِ نَبِيٌّ يُصَدِّقُ رِسَالَةَ عِيسَى بن مَرْيَمَ، وَيُخْرِجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ.
ثُمَّ أُتِيحَتِ الْفُرْصَةُ لِصُهَيْبٍ فَوَلَّى هَارِبًا مِنْ رِقِّ أَسْيَادِهِ، وَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ مَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى وَمَوْئِلِ الْعَرَبِ، وَمَبْعَثِ النَّبِيِّ الْمُرْتَقِبَ.
وَلَمَّا أَلْقَى عَصَاهُ فِيهَا أَطْلَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ اسْمَ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ لِلُكْنَةِ لِسَانِهِ وَحُمْرَةِ شَعْرِهِ.