الِاعْتِصَارُ فِي الصَّدَقَةِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ بِصَدَقَةٍ قَبَضَهَا الِابْنُ، أَوْ كَانَ فِي حِجْرِ أَبِيهِ فَأَشْهَدَ لَهُ عَلَى صَدَقَتِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّدَقَةِ) .
ــ
[المنتقى]
الْوَاهِبَ بِالْقَبُولِ فَإِذَا فَاتَتْ وَلَزِمَتْ الْمُعْطِي وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ لَزِمَتْ الْمُعْطِي؛ لِأَنَّ الْمُعْطَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِمَا فِيهَا مِنْ الزِّيَادَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ نَقْصُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَبَيْعِ الْخِيَارِ إذَا رَضِيَ مُشْتَرِطُ الْخِيَارِ الْمَبِيعَ فَلَهُ مَا حَدَثَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَعَلَيْهِ النَّقْصُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَنَا آخُذُهُ وَيُحَطُّ عَنِّي نَقْصُهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ يَوْمَ الْقَبْضِ أَصْوَبُ؛ لِأَنَّ لِلْهِبَةِ لِلثَّوَابِ بِالْقَبْضِ تَأْثِيرًا فِي لُزُومِهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ فِي يَدِ الْوَاهِبِ لَمْ تَفُتْ بِزِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَإِنَّمَا تَفُوتُ بِذَلِكَ إذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُعْطِي فِي بَيْعِ الْخِيَارِ، وَإِنَّمَا يُسْتَنَدُ الْخِيَارُ إلَى الْعَقْدِ لَا إلَى الْقَبْضِ وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ بِالْخِيَارِ إنَّمَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَالْهِبَةِ لِلثَّوَابِ بِالْقِيمَةِ فَوَجَبَ أَنْ تُرَاعَى فِيهِ يَوْمَ الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
[الِاعْتِصَارُ فِي الصَّدَقَةِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَلَى ابْنِهِ الْكَبِيرِ الْمَالِكِ لِأَمْرِ نَفْسِهِ، أَوْ الصَّغِيرِ فِي حِجْرِهِ فَلَيْسَ لِلْمُتَصَدِّقِ اعْتِصَارُهَا إذَا قُبِضَتْ وَحِيزَتْ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا اعْتِصَارَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَمَا كَانَ مِنْ الْعَطِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَلَا اعْتِصَارَ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا أَنَّ الْعَطَايَا الْمُنْفَرَدَ بِهَا لَازِمَةٌ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا قَالَ: قَبَضَهَا الِابْنُ، أَوْ كَانَ فِي حِجْرِ أَبِيهِ فَأَشْهَدَ لَهُ عَلَى صَدَقَتِهِ لِيَذْكُرَ أَقْوَى وُجُوهِهَا فِي حِيَازَةِ الِابْنِ الْكَبِيرِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْعَبَ وُجُوهِهَا وَهُوَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ فِي حِجْرِهِ فَيُقْضَى عَلَى الْإِشْهَادِ لَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْحِيَازَةَ لَهُ فَلَا اعْتِصَارَ لَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِمَا اُحْتُجَّ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّدَقَةِ وَمَعْنَى ذَلِكَ مَا يَأْتِي بَعْدَ هَذَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ صَدَقَتَهُ وَيَأْخُذَهَا بِعِوَضٍ فَبِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ أَتَى بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ لِلْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا كَالْهِبَةِ وَالنَّحْلِ وَالْعَطِيَّةِ فَإِنْ قُرِنَ بِهِ مَا يَقْتَضِي الْقُرْبَةَ كَقَوْلِهِ هِبَةً لِلَّهِ، أَوْ لِوَجْهِ اللَّهِ، أَوْ لِطَلَبِ الْأَجْرِ، أَوْ لِصِلَةِ رَحِمِهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لَا يُعْتَصَرُ هَذَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مَالٌ يَخْرُجُ عَنْ وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالصَّدَقَةِ.
١ -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يُرِيدُ بِهَا الصِّلَةَ فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ لَا يَعْتَصِرُهَا كَالصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهُ ابْنٌ، أَوْ ابْنَةٌ مُحْتَاجَانِ صَغِيرٌ فِي حِجْرِهِ أَوْ كَبِيرٌ بَائِنٌ عَنْهُ، وَقَدْ يَكُون الِابْنُ الصَّغِيرُ يَصِلُهُ لِمَا يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَصَاصَةِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي هِبَتَهُ أَوْ عَطِيَّتَهُ لِابْنِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ أَوْ الْبَائِنِ عَنْهُ إذَا كَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ، وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّ ظَاهِرَ هِبَتِهِ وَمَعْنَاهَا الْقُرْبَةُ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الِاعْتِصَارَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهَا هِبَةٌ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا مَا يَخْلُصُهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ اعْتِصَارَهَا كَالْهِبَةِ لِلْغَنِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الصِّلَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْفَقِيرِ بَلْ قَدْ يُوصَلُ الْغَنِيُّ وَغَيْرُهُ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ الِاعْتِصَارَ.
١ -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا قَيَّدَ الْهِبَةَ، أَوْ الْعَطِيَّةَ، أَوْ النِّحْلَةَ فَقَالَ: إنِّي قَدْ سَلَّطْت عَلَيْهَا حُكْمَ الِاعْتِصَارِ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِي جَوَازِ الِاعْتِصَارِ لِلْأَبَوَيْنِ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا «رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي نَحَلْت ابْنِي هَذَا غُلَامًا فَقَالَ أَكُلَّ وَلَدِك نَحَلْت مِثْلَهُ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْتَجِعْهُ» .
فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ وَهَبَ لِابْنِهِ الْغُلَامَ ثُمَّ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِارْتِجَاعِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِارْتِجَاعُ بِهِبَتِهِ مِنْهُ جَائِزًا لَمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الِابْنَ قَدْ أُضِيفَ إلَى الْأَبِ مَعَ مَالِهِ فِي الشَّرْعِ فَكَانَ لِذَلِكَ تَأْثِيرٌ فِي انْتِزَاعِ مَا بِيَدِهِ كَالْعَبْدِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْأَبَوَيْنِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ