[الخونجي لا يهتدي إلى معرفة الحق لغبش علم الكلام]
وكذلك الخونجي عبر عن أمثاله من أهل الأهواء وأهل الكلام الذين خاضوا في الكلام يريدون الحقيقة فلم يصلوا إلى أي حقيقة.
قال: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم اعترض على القاعدة على طريقة الرازي والمتكلمين، يضع المرء منهم قاعدة ثم يعترض عليها ويورد عليها الشكوك، ولذلك كل قاعدة عقلية في الغيب لابد من أن يرد عليها من الشكوك ما ينسفها من قائلها ومن مقررها.
فكل قاعدة عقلية في الغيب لابد من أن يرد من قائلها أو ممن كان على هذا المذهب ما يشكك به فيها، أما أمور الفطرة وأمور العقل السليم والشرع؛ فإنه لا يمكن أن يرد فيها التشكيك إلا من مريض القلب.
وقولهم: إن الممكن يفتقر إلى المرجح فلسفة أصحابها ما وصلوا فيها إلى نتيجة، ويمكن أن نعبر بالتعبير اليسير لمفهومها عندهم، فهم يقولون بأن هذا العالم المخلوق ممكن الوجود؛ لأنه لا يعقل أن يكون أوجد نفسه؛ ولأنا نرى من مظاهر الكون ومظاهر الأحياء أن هناك ما يحدث وهناك ما يفنى من هذه المخلوقات، فما يحدث يدل على أنه لم يكن ثم كان، إذاً: هو ممكن، وما يفنى يدل على أنه كان ثم لم يكن، إذاً: هو ممكن، ويمكن أن يحدث مرة أخرى مثله أو هو نفسه.
إذاً: كل الخلق ممكن الوجود، فنشأ عنده إشكال آخر، وهو أن الممكن هذا يحتاج إلى ما لا يمكن أن يخضع لهذا التصور، فلابد من أن يكون لهذا الممكن الذي يوجد ويفنى ويحدث وينقضي موجد، والموجد إذا كان ممكناً وقعنا في الدور، فالممكن يحتاج إلى ممكن إلى ما لا نهاية.
إذاً: لابد من مرجح، وهو الذي وجوده لا يفتقر إلى غيره، يقصدون بذلك الله عز وجل، ويسمونه هم: واجب الوجود، يعني: لازم الوجود، وليس المراد الواجب الشرعي، فهم أقل الناس اهتماماً بالواجبات الشرعية، بل أصحاب مصطلح (واجب الوجود) لا يؤمنون بالشرائع، فهم يقصدون بواجب الوجود اللازم وجوده عقلاً، ويسمونه المرجح.
ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أي: افتقار المخلوقات إلى خالق وصف سلبي، وكأنه يرى أن عظمة هذا الكون تقتضي عدم وجود الوصف السلبي إلى آخره، ثم انتهى إلى لا شيء، نسأل الله السلامة والعافية، فقال: أموت وما عرفت شيئاً.
هكذا قال.
وقال آخر -وذكر أنه الحموي كما ورد في درء التعارض لشيخ الإسلام ابن تيمية -: أضطجع على فراشي.
فانظر كيف حاله نسأل الله السلامة! فبدلاً من أن يذكر الله عز وجل ويقرأ أوراده وينام نوماً هنيئاً بعقيدته السلمية الصافية يجلس حائراً طول الليل وينتهي إلى لا شيء.
يقول: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء -أي: من المتكلمين- حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء! وهكذا يعيش عمره بهذه الترهات التي الكلام فيها متاهات والخوض فيها متاهات والنهاية منها متاهات، نسأل الله السلامة والعافية.
فهذا تصوير لحال المتكلمين لا يمكن أن يعبر عنه غيرهم، وفي ذلك عبرة وعظة للمتعظين، لكن من يتعظ؟! ومن عافاه الله سيجد في ذلك العبرة والعظة، لكن من ابتلي بالكلام فقد لا يتعظ -نسأل الله السلامة- إلا إن وفق وكان قصده فعلاً أن يبحث عن الحق، دليل ذلك أن كثيراً من المتكلمين المعاصرين الآن بدءوا يرفعون راية الكلام منتصرين لهذا المنهج، ومنتصرين لهذا الاتجاه بمؤلفات وكتب ومحاضرات، ويشنون الحملة تلو الحملة على أهل الحق والاستقامة، ويتهمونهم بالتحجر والتشبيه والتجسيم والحشوية من جديد كما فعل أسلافهم، وبدءوا يهتمون بكتب أهل الكلام خاصة كتب هؤلاء الذين ذكرهم الشارح، فهناك طائفة من المتكلمين المعاصرين بدءوا يعنون بهذه الكتب وينشرونها على أنها البديل ضد التيار السلفي، وهذه مصيبة وداهية؛ إذ لم يتعظوا بمن سبقهم ولم يأخذوا بنصيحة المشفقين من شيوخهم ولا من أهل السنة والجماعة، لكن الأمر لله من قبل ومن بعد.