[ذكر الأقوال في دوام الحوادث في الماضي والمستقبل]
قال رحمه الله تعالى: [فالحاصل: أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا؟ أو في المستقبل فقط؟ أو الماضي فقط؟ فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من المسلمين وغيرهم، أضعفها: قول من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل.
كقول جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف].
هؤلاء المعطلة الذين يعطلون الله عن الأسماء والصفات والأفعال، وبناء على قولهم هذا بنفي دوام الحوادث في المستقبل والماضي نفوا أفعال الله تعالى والأسماء التي هي أسماء له سبحانه وتعالى وأثبتها لنفسه، وكذلك صفاته؛ ولهم في ذلك مأخذان: الأول: يقولون بأنها تشبه صفات المخلوقين ولو لفظاً، وأي اشتباه ولو كان لفظياً بالله تعالى فيلزم تنزيه الله منه لوجود الاشتباه.
والمأخذ الثاني أنهم ظنوا أن الأسماء والصفات والأفعال تشعر بحدوث شيء من الله سبحانه وتعالى، وهم ينفون أن يكون حدث من الله شيء.
وهنا فيه لبس؛ فصفات الله نوعان: صفات ذاتية أزلية، فهذه لازمة له سبحانه وتعالى ولا يتجدد بها شيء؛ كالحي القيوم وغيرهما؛ لأنها من الصفات الذاتية اللازمة.
وصفات تتعلق بأفعاله، مثل: صفة الكلام، فالله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام منذ الأزل وإلى الأبد، وصفته سبحانه وتعالى لازمة له من حيث هي نوع من أنواع الصفات، فالله متكلم منذ الأزل، والله سبحانه وتعالى لا يزال متكلماً متى شاء كما شاء، ويتكلم في المستقبل كما يشاء سبحانه.
فالله سبحانه وتعالى تكلم بكلمة (كن)، ويتكلم بها متى شاء، والله سبحانه وتعالى كلم موسى، وهذا كلام متجدد، لكنه لازم من لوازم صفة الله اللازمة الثابتة، وتكلم الله سبحانه وتعالى بالقرآن، وفي المستقبل يتكلم سبحانه وتعالى يوم القيامة ويكلم عباده المؤمنين ويكلمونه، بل يكلم جميع الخلائق كما ورد في النصوص، فهذا كله ليس من عقول الناس، إنما هو قول السلف من النصوص، فالله سبحانه وتعالى ثبت أنه يكلم عباده بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، والله على كل شيء قدير.
إذاً: فمنشأ المسألة اعتقاد قول الفلاسفة بأن الخالق سبحانه صفاته لابد من أن تكون لازمة له ولا يتجدد في أفرادها شيء؛ لأن الحوادث ينزه الله عنها؛ وهذا كلام مجمل، فقد يكون قصدهم بالحوادث الباطل، وقد يكون قصدهم بالحوادث الحق، فصفات الله الفعلية -مثل صفة النزول- من المعلوم أنها حوادث، وأن معناها المتبادر إلى الأذهان منفي عن الله.
لكن الجهمية والمعتزلة عطلوا بعضها وأولوا بعضها، والأشاعرة ورثوا ذلك عن الجهمية والمعتزلة، فقالوا: ما يدل على وقوع الحوادث -كالاستواء والنزول- لابد أن يؤول.
فالاستواء عندهم: هو الملك، والنزول: هو نزول رحمة الله، في حين أنه صرح الصحابة والتابعون وسلف الأمة بأن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه كما يليق بجلاله، وأن الله سبحانه وتعالى ينزل كل ليلة كما يليق بجلاله، وأنه تعالى يعجب ويضحك كما يليق بجلاله، فهذه الصفات تكلم فيها المتكلمون وزعموا أنها حوادث، وهذا كله من عبث الشيطان، وإلا فأصل مبدأ الإيمان بالصفات مبني على الغيب، وإذا كان مبنياً على الغيب فلم ينفون صفات الله تعالى وهو رجم بالغيب؟! قال رحمه الله تعالى: [وثانيها: قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي كقول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم، والثالث: قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل، كما يقوله أئمة الحديث، وهي من المسائل الكبار، ولم يقل أحد: يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل.
ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تعالى مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع محال، ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فإن الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء ويتكلم إذا يشاء، قال تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:٤٠]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:٢٥٣]، وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:١٥ - ١٦]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:٢٧]، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:١٠٩]].
يريد بهذا أن يثبت أن صفة الكلام لله تعالى أفرادها باقية، والله سبحا