• وبهذا يمكن الجمع بين الأثرين المتعارضين، بحمل الأول على صلاة الجماعة فلا يقرأ فيها المأموم شيئًا سرًّا كانت أو جهرًا، والثاني على صلاة المنفرد فيقرأ، لكنا لا نذهب إلى هذا الجمع لسببين:
الأول: أن الرواية الأولى فيها: أسامة بن زيد الليثي مولاهم: صدوق، صحيح الكتاب، يخطئ إذا حدث من حفظه، وقد أنكروا عليه أحاديث [تقدمت ترجمته مفصلة عند الحديث رقم (٣٩٤ و ٦٠٠ و ٦١٩)]، وأخاف أن يكون هذا من أوهامه، ولم يكن أسامة ثقة حافظًا يعتمد على حفظه.
وفي الثانية: مخرمة بن بكير عن أبيه، وسبق الكلام عليه.
السبب الثاني: أنا بهذا الجمع سوف نحتاج إلى الجمع مع ما ثبت عن جابر في إثبات القراءة خلف الإمام في السرية:
فقد روى مسعر بن كدام: حدثني يزيد بن صهيب الفقير، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: يُقرأ [وفي رواية: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام، في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة [سواها]، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب، وكنا نتحدث أنه:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما فوق ذاك"، وفي رواية:"لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب".
وهو صحيح له حكم الرفع، تقدم تخريجه في الشاهد الثالث.
فكيف ينقل لنا جابر أنهم كانوا يقرؤون خلف الإمام، وإمامهم يومئذ هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أحد الخلفاء الراشدين الناقلين لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، وهم كانوا أعلم الناس بصفة صلاته - صلى الله عليه وسلم -، كيف ينقل لنا سُنَّة القراءة خلف الإمام في السرية، ثم هو بعد ذلك يأمر بخلافها، أو يُسأل عن فعله، فيخبر بمخالفته لما كان عليه الصحابة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، لا شك أن ذلك مستبعد وقوعه من هذا الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري؛ فإما أن يكون وقع وهم من الرواة الناقلين للخبر المضاد لذلك، أو هو مما يمكن تأويله والجمع بينه وبين هذا الخبر الموافق لبقية الأخبار الثابتة في هذا الباب.
• فأقول: الخبر المحكم عن جابر في هذا، هو ما رواه عنه يزيد بن صهيب، فهو خبر محكم مفصل يجب أن يُرد إليه المتشابه المجمل، مثل خبر عبيد الله بن مقسم، من رواية داود بن قيس وأيوب بن موسى عنه، فتحمل القراءة على المنفرد والمأموم في الصلاة السرية، ويحمل النهي عن القراءة خلف الإمام على الجهرية، ويحمل عدم القراءة خلف الإمام في الظهر والعصر على ما زاد عن فاتحة الكتاب، والله أعلم.
• وما رواه عثمان بن الضحاك بن عثمان، عن أبيه، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال: سنة القراءة في الصلاة أن تقرأ في الأوليين بأم القرآن وسورة، وفي الأخريين بأم القرآن.