وقال في موضع آخر (٥/ ٦٦): "وإنما يختلف العلماء في قبول حديث المدلِّس إذا كان عمَّن قد عُلِم لقاؤه له وسماعه منه، هاهنا يقول قوم: يقبل ما يعنعن عنهم حتَّى يتبين الانقطاع في حديثٍ حديثٍ فيُرَدُّ.
ويقول آخرون: بل يُرَدُّ ما يعنعن عنهم حتَّى يتبين الاتصال في حديثٍ حديثٍ فيقبل، أما ما يعنعنه المدلِّس عمن لم نعلم لقاءه له ولا سماعه منه، فلا أعلم الخلاف فيه بأنه لا يقبل" [وانظر أيضًا: بيان الوهم (٥/ ٤٩٣)، زاد المعاد (٢/ ٢٧٦)].
وممن أشار إلى وجود الخلاف فيها: العلائي، فقد قال في جامع التحصيل (٨٠): "فمن عرف منه أنَّه لا يدلس إلا عن ثقة كسفيان بن عيينة؛ قُبل ما قال فيه: عن، واحتج به، ومن عرف بالتدليس عن الضعفاء كابن إسحاق وبقية وأمثالهما؛ لم يحتج من حديثه إلا بما قال فيه: حدثنا، وسمعت، وهذا هو الراجح في البابين".
ثم جاء من المتأخرين من يجعل المسألة من مسائل الاتفاق، قال ابن الملقن في البدر المنير (٢/ ١٥): "ولا خلاف أن المدلِّس إذا لم يذكر سماعًا لا يحتج بروايته"، وقد قال بهذا: ابن عبد البر والنووي وغيرهما [انظر: النكت للزركشي (٢/ ٨٩ و ٩٢)، البحر المحيط (٣/ ٣٦٩)، النكت لابن حجر (٢/ ٦٢٤)، المدخل إلى كتاب الإكليل للحاكم (٦٩)، الكفاية (٣٦١)].
ومن أشهر من صرَّح بردِّ حديث المدلِّس بمجرد العنعنة، وعدم التصريح بالسماع في كل حديث حديث: الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، حيث يقول في الرسالة (١/ ١٧٤ - الأم): "ومن عرفناه دلس مرةً فقد أبان لنا عورته في روايته، وليس تلك العورة بالكذب فنردَّ بها حديثه، ولا النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلِّسٍ حديثًا حتَّى يقول فيه: حدثني، أو: سمعت".
ومع أن ابن جريج كان مشتهرًا بالتدليس عن المجروحين؛ إلا أن الشافعي روى له أحاديث كثيرة لم يقل فيها: حدثني، أو: سمعت، انظر على سبيل المثال: مسند الشافعي (١٤ و ١٧ و ٣٥ و ٣٧ و ٣٩ و ٤٣ و ٤٦ و ٦٩ و ٨٤ و ٥ ٨ و ٨٦ و ٩٢ و ١٠٠ و ١٠٨ و ١٠٩ و ١١٠ و ١١٤ و ١١٨ و ١١٩ و ١٢٠ و ١٢١ و ١٢٩ و ١٣٢ و ١٣٣ و ١٣٤ و ١٣٥ و ١٣٩ و ١٥٠ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٦٨ و ١٧٤ و ١٨١ و ١٩٢ و ٢٠٦ و ٢١٣ و ٢٢٠ و ٢٢٧ و ٢٣١ و ٢٣٥ و ٢٤٨ و ٢٥٠ و ٢٥٨ و ٢٦٠ و ٢٦٤ و ٢٦٧ و ٢٧٥ و ٢٩٠ و ٢٩١ و ٢٩٨ و ٣٠٠ و ٣٠٢ و ٣٠٣ و ٣٤١ و ٣٤٨ و ٣٥٦ و ٣٥٧ و ٣٥٨ و ٣٦٠ و ٣٦٦ و ٣٦٨ و ٣٦٩ و ٣٧١ و ٣٧٣ و ٣٧٧)[أكثر من ستين موضعًا] فسلك الإمام الشافعي في تطبيقه العملي مسلكًا يخالف تنظيره، مما يدل على أن المحدثين إنما كانوا يردُّون من حديث المدلِّس ما ثبت أو ترجح لديهم أنَّه دلسه، وقبلوا بقية مروياته المعنعنة حملًا لها على الاتصال، هذا مع أني وجدت كثيرًا من هذه المواضع قد صرح فيها ابن جريج بالسماع من شيوخه خارج كتب الشافعي، لكن هل وقف الشافعي نفسه على هذا السماع؟، وقد وجدته روى لابن جريج في موضعين عن عمرو بن شعيب