مثل: ابن جريج عن عطاء، أو هشام بن عروة عن أبيه، وعمرو بن دينار عن عبيد بن عمير، ومن كان مثل هؤلاء في ثقتهم، ممن يكون الغالب عليه السماع ممن حدث عنه، فأُدرِك عليه أنَّه أدخل بينه وبين من حدَّث رجلًا غيرَ مسمى، أو أسقطه، تُرِك ذلك الحديث الَّذي أُدرِك عليه فيه أنَّه لم يسمعه، ولم يضره ذلك في غيره، حتَّى يُدرَك عليه فيه مثل ما أُدرِك عليه في هذا، فيكون مثل المقطوع" [الكفاية (٣٧٤)].
وهذا صريح في قبول المعنعن حتَّى يتبين لنا فيه عدم السماع، لكنه قيده بأن يكون الغالب عليه السماع من شيخه.
وقال يعقوب بن سفيان في المعرفة (٣/ ١٤): "وحديث سفيان وأبي إسحاق والأعمش ما لم يُعلَم أنَّه مدلس: يقوم مقام الحجة".
يعني: أنَّه يحتج بحديثهم سواء صرحوا فيه بالسماع أم لا؛ حتَّى يثبت أنهم دلسوا في حديثٍ بعينه، فعندئذ يُرَدُّ هذا الحديث الَّذي دلسوه عن ضعيف أو مجهول.
• ومعنى هذا: أنَّه لا بد من اعتبار حديث المدلِّس وجمع طرقه والنظر فيه، حتَّى يتبين لنا هل دلسه أم لا؟ وفي الغالب ما تجدُ الحديثَ المدلِّس يظهر عوارُه بجمع طرقه، فكما أن تجد المدلِّس قد أخذه عن غير ثقة، أو صرح بأخذه عن مجهول؛ بقوله: حُدِّثت، أو بذكر مبهمٍ في الإسناد، أو بروايته عمن لم يسمع منه، أو بذكر رجلٍ مجروح، أو يكون الحديث معروفًا من حديث مجروحٍ صرح الأئمة بأن المدلِّس غالبًا ما يروي عنه ثم يسقطه من الإسناد، أو مخالفة المدلِّس في الحديث من هو أوثق منه، أو وجود نكارة في المتن، ونحو ذلك، مما يبيِّن موضعَ العلة من الحديث المدلِّس، والعنعنة وعدم التصريح بالسماع
في هذا الحال إنما هو قرينة على الإعلال، لا أنهم كانوا يعلُّون الأحاديث بمجرد العنعنة، فإن لم نجد شيئًا من هذه القرائن التي تدل على وقوع التدليس، فعندئذ يبقى الحديث على السلامة من علة التدليس، حتَّى يتبين لنا أنَّه مدلس، والله أعلم.
• قال الحاكم: "وأخبار المدلِّسين كثيرة، وضَبَط الأئمة عنهم ما لم يدلسوا، والتمييز بين ما دلسوا وما لم يدلسوا ظاهر في الإخبار" [المدخل إلى كتاب الإكليل (٧٣)].
ولا يحمل هذا على مجرد ثبوت السماع في الأسانيد من عدمه، وإنما على أمور خارجية يُتوصل بها على وقوع التدليس.
وهذه المسألة وهي قبول حديث المدلِّس إذا لم يذكر سماعًا في حديث بعينه، ولم يتبين لنا أنَّه دلَّسه: مسألة خلافية، وممن ذكر الخلاف فيها: ابن القطان الفاسي، فقد قال في بيان الوهم (٢/ ٤٣٥): "ومعنعن الأعمش عرضة لتبيُّن الانقطاع، فإنه مدلِّس، وأبين ما يكون الانقطاع بزيادة واحد في حديث من عرف بالتدليس، فإنه إذا كان ثقة يختلف في قبول معنعنه ما لم يقل: حدثنا، أو أخبرنا، أو سمعت، فإنه إذا قال ذلك قبل إجماعًا لثقته، وإذا لم يقل ذلك قبله قوم ما لم يتبين في حديث بعينه أنَّه لم يسمعه، ورده آخرون ما لم يتبين أنَّه سمعه".