يمكن مع طول مدتهم أنهم كانوا يجهرون وهو لا يسمع ذلك، فتبين أن هذا تحريف لا تأويل، لو لم يرو إلا هذا اللفظ، فكيف والآخر صريح في نفي الذكر بها، وهو يفضل هذه الرواية الأخرى، وكلا الروايتين ينفي تأويل من تاول قوله: يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أنه أراد السورة، فإن قوله: يفتتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها: صريح أنه في قصد الافتتاح بالآية، لا بسورة الفاتحة التي أولها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، إذ لو كان مقصوده ذلك لتناقض حديثاه.
وأيضًا فإن افتتاح الصلاة بالفاتحة قبل السورة هو من العلم الظاهر العام الذي يعرفه الخاص والعام، كما يعلمون أن الركوع قبل السجود، وجميع الأئمة غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان يفعلون هذا، ليس في نقل مثل هذا فائدة، ولا هذا مما يحتاج فيه إلى نقل أنس، ولا هم قد سألوه عن ذلك، وليس هذا مما يسأل عنه، وجميع الأئمة من أمراء الأمصار والجيوش وخلفاء بني أمية وبني الزبير وغيرهم ممن أدركه أنس كانوا يفتتحون بالفاتحة، ولم يشتبه هذا على أحد، ولا شك، فكيف يظن أن أنسًا قصد تعريفهم بهذا، وأنهم سألوه عنه، وإنما مثل ذلك مثل أن يقال: فكانوا يصلون الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، أو يقول: فكانوا يجهرون في العشاءين والفجر، ويخافتون في صلاتي الظهرين، أو يقول: فكانوا يجهرون في الأوليين دون الأخيرتين، ... "، إلى أن قال:
"وأيضًا فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة لم يكن في العادة ولا في الشرع ترك نقل ذلك، بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد والاثنان لقُطِع بكذبهما؛ إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه، كالتواطؤ على الكذب فيه، ويمثَّل هذا بكذب دعوى الرافضة في النص على علي في الخلافة وأمثال ذلك.
وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح، ... "، إلى أن قال: "فإذا كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه ليس في الجهر حديث صحيح ولا صريح؛ فضلًا أن يكون فيها أخبار مستفيضة أو متواترة امتنع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بها، كما يمتنع أن يكون كان يجهر بالاستفتاح والتعوذ ثم لا ينقل.
فإن قيل: هذا معارَض بترك الجهر بها، فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، ثم هو مع ذلك ليس منقولًا بالتواتر، بل قد تنازع فيه العلماء، كما أن ترك الجهر بتقدير ثبوته كان يداوِم عليه، ثم لم ينقَل نقلًا قاطعًا، بل وقع فيه النزاع".
فأجاب عن ذلك بكلام طويل خلاصته: أن الذي تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة ويجب نقله شرعًا هو الأمور الوجودية بخلاف الأمور العدمية، والتي لا تنقل إلا إذا احتيج إلى نقلها، أو ظُنَّ وجودها.