يعلم ما كان يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - سرًّا، ولا يمكن أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسكت، بل يصل التكبير بالقراءة، فإنه قد ثبت في الصحيحين: أن أبا هريرة قال له: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول؟
ومن تأول حديث أنس على نفي قراءتها سرًّا، فهو مقابل لقول من قال: مراد أنس أنهم كانوا يفتتحون بفاتحة الكتاب قبل غيرها من السور، وهذا أيضًا ضعيف، فإن هذا من العلم العام الذي ما زال الناس يفعلونه، وقد كان الحجاج بن يوسف وغيره من الأمراء الذين صلى خلفهم أنس يقرؤون الفاتحة قبل السورة، ولم ينازع في ذلك أحد، ولا سئل عن ذلك أحد، لا أنس ولا غيره، ولا يحتاج أن يروي أنس هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ومن روى عن أنس أنه شك: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ البسملة أو لا يقرؤها، فروايته توافق الروايات الصحيحة؛ لأن أنسًا لم يكن يعلم هل قرأها سرًّا أم لا، وإنما نفى الجهر" [المجموع (٢٢/ ٢٧٦)].
وقد سئل أيضًا عن حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة، وحديث المعتمر بن سليمان؛ فأجاب: "الحمد لله رب العالمين، أما حديث أنس في نفي الجهر، فهو صريح لا يحتمل هذا التأويل، فإنه قد رواه مسلم في صحيحه فقال فيه: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها، وهذا النفي لا يجوز إلا مع العلم بذلك، لا يجوز بمجرد كونه لم يسمع مع إمكان الجهر بلا سماع، واللفظ الآخر الذي في صحيح مسلم: صليت خلف النبي وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يجهر -أو قال: يصلي- بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فهذا نفي فيه السماع، ولو لم يرو إلا هذا اللفظ لم يجز تأويله بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ جهرًا ولا يسمع أنس لوجوه:
أحدها: أن أنسًا إنما روى هذا ليبين لهم ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، إذ لا غرض للناس في معرفة كون أنس سمع أو لم يسمع إلا ليستدلوا بعدم سماعه على عدم المسموع، فلو لم يكن ما ذكره دليلًا على نفي ذلك لم يكن أنس ليروي شيئًا لا فائدة لهم فيه، ولا كانوا يروون مثل هذا الذي لا يفيدهم.
الثاني: أن مثل هذا اللفظ صار دالًا في العرف على عدم ما لم يدرك، فإذا قال: ما سمعنا، أو ما رأينا، لما شأنه أن يسمعه ويراه، كان مقصوده بذلك نفي وجوده، وذكر نفي الإدراك دليل على ذلك، ومعلوم أنه دليل فيما جرت العادة بإدراكه.
وهذا يظهر بالوجه الثالث: وهو أن أنسًا كان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من حين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة إلى أن مات، وكان يدخل على نسائه قبل الحجاب، ويصحبه حضرًا وسفرًا، وكان حين حج النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت ناقته يسيل عليه لعابها، أفيمكن مع هذا القرب الخاص والصحبة الطويلة أن لا يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يجهر بها مع كونه يجهر بها، هذا مما يعلم بالضرورة بطلانه في العادة، ثم إنه صحب أبا بكر وعمر وعثمان، وتولى لأبي بكر وعمر ولايات، ولا كان