وأقول إن هذا الكلام هو الشفاء بعد كلام الله، والذى ينبغى أن يكون عليه الاعتماد بعد سنة رسول الله، فلقد ضمّنه من محاسن الاقتضاب من أبلغ الوعظ أعجب العجاب، وما فيه بلاغ وذكرى لأولى الألباب، فانظر أيها المتأمل كيف افتتح الكلام بذم الدنيا وما اشتملت عليه من صروف المحن والبلوى، ثم خرج منه إلى الخروج عن الدنيا، ثم خرج منه إلى ذكر غرورها، ثم خرج منه إلى ذكر منزلة الحى من الميت فى بعدها وقربها، ثم أردفه بذكر حال الثواب والعقاب، ثم رجع إلى ذكر حال الدنيا بوصف آخر مع الآخرة من زيادة أو نقصان، ثم خرج إلى ذكر الرزق وما ضمن منه، ثم ذكر التكليف وما حملنا منه، ثم خرج إلى ذكر الأمل وما حملنا منه، ثم خرج منه إلى ذكر الأمل وغروره، وذكر الأجل وحضوره، يقتضب كل واحد من هذه الآداب اقتضابا ربما كان أحسن من التخلص، لما فيه من الرقة واللطافة، ثم ختم هذا الكلام بختام هو لباب سره، ونظام سلكه وعبقات عبيره. ونفحات مسكه، وهو قوله فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، فهى جامعة لجميع ما أسلفه، ومؤكدة لما عدده ورصفه، فلو كان من كلام البشر معجزة لكان هذا هو الأول، ولو أعجز شىء من الكلام بعد كلام الله لكان هذا هو الثانى، ومن بديع ما جاء فى الاقتضاب قول البحترى يمدح الفتح بن خاقان بعد انخساف الجسر به فى قصيدته التى مطلعها:
متى لاح برق، أو بدا طلل، قفر ... جرى مستهل لا بكىء، ولا نزر
وبعده:
فتى لا يزال الدهر بين رباعه ... أيادله بيض، وأفنية، خضر
فبينا هو فى غزلها إذ خرج إلى المديح على جهة الاقتضاب بقوله:
لعمرك ما الدّنيا بناقصة الجدا ... إذا بقى الفتح بن خاقان والقطر
فخرج إلى المديح من غير أن يكون هناك له سبب من الأسباب كما ترى. ومن ذلك ما قاله أبو نواس فى قصيدته التى مطلعها قوله «يا كثير النّوح فى الدّمن» فضمّنها غزلا كثيرا ثم قال بعد ذلك:
تضحك الدنيا إلى ملك ... قام بالآثار والسّنن
سنّ للناس النّدى فندوا ... فكأنّ المحل لم يكن
وأكثر مدائح أبى نواس مؤسسة على الاقتضاب من غير ذكر التخلص. وفيما ذكرناه كفاية عن إبانة التخلص والاقتضاب فهذا ما أردنا ذكره فيما يختص بالدلائل المركبة وهو الباب الثالث.