يستحقه من غير إفراط فى الجانبين، ولا تفريط فى حقهما. ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، قريب من النار، والسخى قريب من الله قريب من الناس، بعيد من النار، وقال عليه السلام: إن مع العز ذلا، وإن مع الحياة موتا، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شىء حسيبا، وإن على كل شىء رقيبا، وإن لكل أحد كتابا ولكل حسنة ثوابا، ولكل سيئة عقابا، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: إنه من خاف البيات أدلج، ومن أدلج فى المسير وصل، وإنما تعرفون عواقب أعمالكم لو قد طويت صحائف آجالكم، أيها الناس. إن نية المؤمن خير من عمله ونية الفاسق شر من عمله، فليتأمل المتأمل فى كلامه عليه السلام من الاقتصاد فى الوعظ، وفى وصف المحبة والبغض، وغير ذلك من كلامه فإنه لامرية فى كونه سالكا فيها طريقة القصد، وناهجا منهج العدل لا يغلو فيفرط ولا يحيف فيفرط.
[المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه،]
وهو جار فيما هو فيه على قانون النصفة، وسالك لطريق الحق والمعدلة، من ذلك ما قاله فى صفة المؤمنين وأهل التقوى: وإن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله فى أسماع الغافلين، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة، وهم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما اطلعوا على غيوب أهل البرزخ فى طول الإقامة فيه، وحققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا، حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس، ويسمعون ما لا يسمعون، فلو مثلتهم لعقلك فى مقاومهم المحمودة ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم: على كل صغيرة وكبيرة أمروا بها فقصروا عنها، أو نهوا عنها ففرطوا فيها، وحملوا ثقل أوزارهم ظهورهم، فضعفوا عن الاستقلال بها، فنشجوا نشيجا وتجاوبوا نحيبا يعجون إلى ربهم من مقاوم ندم واعتراف، لرأيت أعلام هدى ومصابيح دجى، قد حفت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات، فى مقعد اطلع الله عليهم فيه فرضى سعيهم، وحمد مقامهم، رهائن فاقة إلى فضله، وأسارى ذلة لعظمته، جرح طول