فالبيت الأول كان كافيا فى إفادة المدح، وبالغا غاية الحسن، لأنه لما قال لو استزادت لما أصابت مزيدا، دخل تحته كل الأشياء الحسنة، خلا أن للتشبيه مزية أخرى تفيد السامع تصورا وتخيلا لا تحصل من المدح المطلق، وهذا الضرب له موقع بديع فى الإطناب وهكذا ورد قوله أيضا
تردد فى خلقى سؤدد ... سماحا مرجى وبأسا مهيبا
فكالسيف إن جئته صارخا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا «١»
فالبيت الأول دالّ على نهاية المدح، لكن البيت الثانى موضح ومبين لمعناه، لأن البحر للسماح، والسيف للبأس المهيب، مع اختصاصه بالتشبيه الفائق الذى يكسب الكلام رونقا وجمالا، ويزيده قوة وكمالا، وله وقع فى البلاغة وتأكيد فى المعنى، والتفرقة بين هذا الضرب وما قبله ظاهرة لا خفاء بها، فإن هذا وارد على جهة التشبيه بعد تقدم ما يرشد إلى المعنى ويقويه، بخلاف الضرب الأول، فإن الإطناب فيه من جهة المفهوم المعنوى، وبيانه هو أنه لما قال فى الآية الأولى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
[التوبة: ٤٤] أشعر ظاهرها من جهة المفهوم أن غير هؤلاء بخلافهم، وأنهم المخصوصون بالإذن، فإذا قال بعد ذلك إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
[التوبة: ٤٥] كان هذا مؤكدا لمفهوم الآية الأولى موضحا له، مع ما أفاد من تلك الفائدة التى ذكرناها، وهو اختصاصهم بالريب والوجل والتردد والحيرة، وهكذا الكلام فى الآية الثانية فإنه لما قال وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦)
[الروم: ٦] ، فنفى نفيا عاما أشعر ظاهره أنهم غير عالمين بعلم الدين، وحقائق علم الآخرة، ومفهومها أن معهم علما من ظاهر الدنيا، فإذا قال بعد ذلك يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا
[الروم: ٧] كان إطنابا لمفهومها مؤكدا مع زيادة فائدة فيه، وهو غفلتهم عن أمور الآخرة وإعراضهم عنها، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الإطناب فى الضرب الأول