الدالة على عمق النظر وبعده في حركة دين الإسلام في نشأته، ثم في انتشاره، ثم في تحقيقه عن طريق ثقافته، حضارة نسميها اليوم (الحضارة الإسلامية): بمفهومها التاريخي الواسع المتراحب.
ولعل هذا الاستطراد البسيط قد كشف شيئا من فكرة المفكر الغربي الذي قال:(إن ثقافة الشعب ودين الشعب مظهران لشيء واحد، وإن الثفاقة في جوهرها تجسيد لدين الشعب). ودين الإسلام يزيد هذه الفكرة وضوحا وجلاء لأنه هو الدين الوحيد في هذه الدنيا الذي يشتمل على جميع الأصول التي تقوم الثقافات الإنسانية على بعضها دون جميعها، فإن الله تعالى جده أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، على اختلاف قبائلهم وشعوبهم، وعلى اختلاف ألسنتهم وألوانهم وهيأ للجنس البشري كله أن ينتقل به من فوضى الملل والعقائد والعادات والتقاليد، أي من فوضى الثقافات، إلى ثقافة هي في جوهرها قابلة لتصفية سائر الثقافات القديمة، ثم احتوائها لتكون ثقافة متعددة الوجوه على غير اختلاف في الأصول. ومعنى ذلك أن الله تعالى قد ضمن كتابه الذي جاء للناس كافة، أصولا جامعة للعناصر الحية التي تقوم عليها ثقافات البشر المختلفة، من عهد أبينا آدم -عليه السلام- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وضمن هذا الكتاب، وضمن الحكمة التي هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميع الأسباب التي تحرك "الثقافة" وتعدها للنمو المتجدد الذي يتيح لها إنشاء الحضارة المتميزة الشاملة.
وذلك أن أن الله جلا جلاله قد اصطفي لكلامه سبحانه اللسان العربي المبين، فأنزل به كتابا عربيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلام الله، وهو القرآن، واصطفي من البشر نبيا عربي اللسان فأنزل على قلبه هذا الكتاب وآتى هذا النبي العربي الحكمة المبينة عما أجمله القرآن، وآتاه جوامع الكلم التي هي حديثه وسنته - صلى الله عليه وسلم -. واختار لتحقيق هذه الأصول التي اشتمل عليها كتابه واشتملت عليها سنة رسوله، مجتمعًا عربيًا مستخلصا مستصفى من المجتمع العربي الجاهلي وهم -أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، ثم وصفهم سبحانه في محكم كتابه