وطبائعهم، في زمن ما من حياتهم، ومن تطبيق هذه الأفكار والمبادئ حتى تصبح أسلوبا لحياة المجتمع المكون من هؤلاء الأفراد. ولم أرد بهذا تعريف الثقافة ولكني أردت تحديد حركتها في جيل بعينه يعيش زمنا محدودا وفي خلال هذا الزمن نفسه تكون حركة الثقافة دائمة التغير في تطبيق الأفكار والمبادئ، وينشأ في أحضان هذا الجيل جيل آخر من أبنائه يتلقى عن الأفراد وعن المجتمع، فيتأثر بما تلقى، ولكنه لا يزال ينمو وتنمو معه أفكار أخرى تزيد أفكار الجيل السابق غنى أو تعدلها، أو تنقص منها، أي أنه يجدد أسلوب حياة مجتمعه فيصير مجتمعا ثانيا يمثل مجتمع الآباء من وجوه، ويعطى مجتمعه هو لمحة جديدة تميزه بعض التمييز عن مجتمع الآباء. وهكذا دواليك على طول امتداد حياة هذا الشعب.
ورحم الله عمر بن الخطاب ورضى عنه. فإن هذا العبقري الدقيق النظر قال فيما قال:(الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم) -وهذه من جوامع الكلم التي جرت على لسان هذا العبقري - رضي الله عنه - وضمنها تجربته هو التي مر بها: فإنه حين انتقل من الجاهلية إلى الإسلام في صدر شبابه، مارس هذا التحول الثقافي في نفسه ثم مد الله عمره حتى ولى الخلافة، ورأى ناشئة جديدة من أبناء الصحابة لم تشهد الجاهلية (أي لم تشهد ثقافة المجتمع الجاهلي الصرف) ولكنها نشأت في مجتمع مسلم جل أفراده قد انتقلوا من ثقافة الجاهلية إلى ثقافة الإسلام، ثم رأى هذه الناشئة التي تلقت عنهم وتأثرت بهم، وهي تتحرك وتنمو وتطبق أفكار الإسلام الحي، لتنشيء مجتمعا جديدا وارثًا لمجتمع الصحابة ورآه وهو يتميز من مجتمع الصحابة بعض التميز، لكي يتهيأ بحركته وفورانه واندفاعه إلى إنشاء حضارة جديدة في أرض العرب وسائر الشعوب التي دانت يومئذ بالإسلام ودخلت دخولا تاما في ثقافته، حضارة جديدة سوف تسود بعد قليل وتملك السلطان المطلق على الفكر وعلى العلم وعلى عمارة الأرض، وعلى الصناعة والتجارة وعلى أسباب القوة التي سوف ترغم العالم على الاعتراف لها بالغلبة والسيادة. وهكذا كان. فهذه الكلمة التي قالها عمر، من أروع الكلمات